غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في ذكر ما ورد في تحريم الخمر .

ولا شق زق الخمر أو كسر دنه إذا عجز الإنكار دون التقدد ( ولا ) غرم أيضا في ( شق زق ) أي وعاء ( الخمر ) والزق بالفتح والكسر هو السقاء أو جلد يجز ولا ينتف للشراب وغيره . والخمر كل ما خامر العقل أي غطاه ، فمتى أسكر كثيره حرم قليله . وشربه من أكبر الكبائر . وقد قال صلى الله عليه وسلم { لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن } رواه البخاري ومسلم وغيرهما زاد مسلم { ولكن التوبة معروضة بعد } .

وقال صلى الله عليه وسلم { لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه } رواه أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما واللفظ له ، وابن ماجه وزاد { وآكل ثمنها } وروى مثله ابن ماجه والترمذي وقال غريب من حديث أنس . قال الحافظ المنذري : رواته ثقات .

وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { أتاني جبريل فقال يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومسقاها } .

وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام . ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو مدمنها لم يشربها في الآخرة } . وفي رواية { من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب لم يشربها في الآخرة وإن دخل الجنة } هذه الرواية للبيهقي . [ ص: 254 ] وفي رواية لمسلم { من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة }

قال الخطابي ثم البغوي في شرح السنة وغيرهما : وفي قوله حرمها في الآخرة وعيد بأنه لا يدخل الجنة ، لأن شراب أهل الجنة خمر إلا أنهم { لا يصدعون عنها ولا ينزفون } ومن دخل الجنة لا يحرم شرابها . انتهى .

قلت : ومثله يقال فيمن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة لقوله تعالى عن أهل الجنة { ولباسهم فيها حرير } بل أولى . وقد أشبعت الكلام على هذا في شرح منظومة الكبائر .

( أو ) أي ولا غرم عليه ولا ضمان في ( كسر دنه ) أي دن الخمر .

قال في القاموس : الراقود العظيم أو أطول من الحب أو أصغر منه له عسعس لا يقعد إلا أن يحفر له . وفي لغة الإقناع : الدن الحب إلا أنه أطول منه وأوسع رأسا وجمعه دنان مثل سهم وسهام ، وقال في القاموس في الكلام على الحب : والحب الجرة أو الضخمة منها جمعه أحباب وحببة وحباب وبالكسر المحب . انتهى .

وقول الناظم ( إذا عجز الإنكار ) أي إذا لم يمكن الإنكار ( دون ) أي غير التقدد يعني حيث لم تمكن إزالة هذا المنكر الذي هو إراقة الخمر بغير تقدد زق الخمر أو كسر دنه . ومفهومه ضمان آنية الخمر مع إمكان إراقتها دون تلف الآنية ، ثم صرح بهذا المفهوم فقال : وإن يتأتى دونه دفع منكر ضمنت الذي ينقى بتغسيله قد ( وإن يتأتى ) أي يمكن إراقة الخمر من الزق أو الدن ( دونه ) أي دون شق زق الخمر ودون كسر دنه ( دفع ) أي إزالة ( منكر ) وهو الخمر بلا شق زق أو كسر دن ثم مع الإمكان والتأتي والنهي لإنكار المنكر ودفعه مع إراقة الخمر بغير شق وكسر إن شققت الزق أو كسرت الدن ( ضمنت ) أي غرمت الزق أو الدن ( الذي ينقى ) أي ينظف ويطهر .

وأصل النقاء البياض والنظافة ، والمراد به هنا الطهارة الشرعية التي يصير بها الوعاء طاهرا جائز الاستعمال بعد كونه نجسا محرم الاستعمال ( بتغسيله ) أي بسبب [ ص: 255 ] تغسيل ذلك الإناء بالماء الطهور . فإن لم يمكن تطهيره بأن كان تشرب النجاسة فلا ضمان بأن يكون الدن أو الزق فشت فيه النجاسة .

وقوله ( قد ) أي حسب ، يعني فقط دون الذي لم يطهر بتغسيله كما قدمنا بيانه . وما ذكره من اشتراط العجز عن إزالة المنكر بدون كسر أو شق وعاء الخمر وإلا ضمن رواية اختارها الناظم رحمه الله نقلها في الإنصاف والفروع وغيرهما وهي رواية الأثرم من الإمام رضي الله عنه . والمذهب المجزوم به خلافه .

قال في الإنصاف : لم يضمن سواء قدر على إراقتها بدون تلف الإناء أو لا . قال وهو المذهب نقله المروذي ، وقدمه في الفروع ، وجزم به في الإقناع والمنتهى وغيرهما وهو من المفردات .

وحجته حديث ابن عمر رضي الله عنهما { أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة فأتيت بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال أعد علي بها ففعلت . فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام ، فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته كلها ، وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي ويعاونوني ، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته } رواه الإمام أحمد .

وكذا لو أحرق مخزن خمر لم يضمن كما في الهدي ، وجزم به في الإقناع وغيره . قال ابن منصور للإمام أحمد رضي الله عنه : رجل مسلم وجد في بيته خمر ، قال يراق الخمر ويؤدب ، وإن كانت تجارته يحرق بيته كما فعل عمر برويشد . انتهى .

يريد ما روت صفية بنت أبي عبد الله قالت : وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بيت رجل من ثقيف شرابا فأمر به عمر فحرق بيته ، وكان يدعى ( رويشد ) فقال عمر : إنه فويسق .

وقال الحارث : شهد قوم على رجل عند علي رضي الله عنه أنه يصطنع الخمر في بيته فيشربها ويبيعها ، فأمر بها فكسرت وحرق بيته وأنهب ماله ثم جلد ، ونفاه . رواهما الإمام ابن بطة من أئمة المذهب رحمه الله ورضي عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية