( فوائد ) الأولى قال
الإمام بن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة :
ومما كان الجاهلية يتطيرون به ويتشاءمون منه العطاس كما يتشاءمون بالبوارح والسوانح .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=15876رؤبة بن العجاج يصف فلاة :
قطعتها ولا أهاب العطاسا
وقال
امرؤ القيس :
وقد أغتدي قبل العطاس بهيكل شديد مسد الجيب نعم المنطق
أراد أنه كان تنبه للصيد قبل أن يتنبه الناس من نومهم لئلا يسمع عطاسا فيتشاءم به ، وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له : عمرا وشبابا ، وإذا عطس من يكرهونه قالوا له : وريا وقحابا . والوري كالرمي داء يصيب الكبد فيفسدها ، والقحاب كالسعال وزنا ومعنى ، فكأن الرجل إذا سمع عطاسا فتشاءم به يقول بك لا بي أي أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي .
وكان تشاؤمهم بالعطسة الشديدة أشد كما يحكى عن بعض الملوك أن مسامرا له عطس عطسة شديدة راعته ، فغضب الملك ، فقال سميره : والله ما تعمدت ذلك ولكن هذا عطاسي ، فقال : والله لئن لم تأتني بمن يشهد لك بذلك لأقتلنك ، فقال أخرجني إلى الناس لعلي أجد من يشهد لي ، فأخرج وقد وكل به الأعوان ، فوجد رجلا فقال : نشدتك بالله إن كنت سمعت عطاسي يوما فلعلك تشهد لي به عند الملك ، فقال : نعم أنا أشهد لك فنهض معه
[ ص: 446 ] فقال أيها الملك أنا أشهد أن هذا الرجل يوما عطس فطار ضرس من أضراسه ، فقال له الملك عد إلى حديثك ومجلسك . فلما جاء الله بالإسلام ، وأبطل برسوله ما كان عليه الجاهلية الطغام ، من الضلال والآثام ، نهى أمته عن التشاؤم والتطير ، وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه دعاء له بالرحمة .
ولما كان الدعاء على العاطس نوعا من الظلم والبغي جعل الدعاء له بلفظ الرحمة المنافي للظلم ، وأمر العاطس أن يدعو لسامعه ومشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال فيقول : يغفر الله لنا ولكم ، أو يهديكم الله ويصلح بالكم .
فأما الدعاء بالهداية فلما أنه اهتدى إلى طاعة الرسول ، ورغب عما كان عليه الجاهلية ، فدعا له يثبته الله عليها ويهديه إليها ، وكذلك الدعاء بإصلاح البال وهي كلمة جامعة له صلاح شأنه كله ، وهي من باب الخيرات . ولما دعا لأخيه بالرحمة فناسب أن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال .
وأما الدعاء بالمغفرة فجاء بلفظ يشمل العاطس والمشمت فيقول يغفر الله لنا ولكم ، ليتحصل من مجموع دعوى العاطس والمشمت لهما المغفرة والرحمة معا . فصلوات الله وسلامه على المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة .
قال ولأجل هذا والله أعلم لم يؤمر بتشميت من لم يحمد الله . فالدعاء له بالرحمة نعمة فلا يستحقها من لم يحمد الله ولم يشكره على هذه النعمة ، ويتأسى بأبيه
آدم فإنه لما نفخت فيه الروح وبلغت إلى خياشيمه عطس فألهمه ربه تبارك وتعالى أن نطق بحمده فقال الحمد لله ، فقال الله سبحانه : يرحمك الله يا
آدم ، فصارت تلك سنة العاطس . فمن لم يحمد الله لم يستحق هذه الدعوة .
ولما سبقت هذه الكلمة
لآدم عليه السلام قبل أن يصيبه ما أصابه كان مآله إلى الرحمة ، وكان ما جرى عارضا وزال ، فإن الرحمة سبقت العقوبة وغلبت الغضب . انتهى ملخصا والله أعلم .
وقد علمنا أن أول نفس خرج من أبينا
آدم العطاس ، وأول كلمة جرت على لسانه الشريف حمد الله جل شأنه .