غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
وترك الدوا أولى وفعلك جائز ولم تتيقن فيه حرمة مفرد ( وترك الدوا ) وهو كما في القاموس مثلثة ما داويت به . وقال الحجاوي في لغة إقناعه : الدواء ما يداوى به مثلث الدال ممدود وفتحها أفصح ، والجمع أدوية ، وداويته مداواة ، والاسم الدواء والداء المرض وجمعه أدواء ( أولى ) أي أفضل من الدواء بمعنى التداوي ، نص عليه . قال في رواية المروذي : العلاج رخصة وتركه أعلى درجة منه . وكان يكون به يعني الإمام علل ولا يخبر الطبيب بها إذا سأله لما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون } وفي رواية { الذين لا يرقون ولا يسترقون } وذكره بعضهم من رواية مسلم .

وقال عليه الصلاة والسلام { من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل } رواه الإمام أحمد وغيره ورواته ثقات وصححه الترمذي .

وفي حديث جيد { لم يتوكل من استرقى } وجزم في الإقناع والمنتهى وغيرهما بأن ترك الدواء أفضل وأنه لا يجب ولو ظن نفعه .

( وفعلك ) أيها المريض ونحوه للتداوي ( جائز ) أي مباح لا حرام ولا مكروه وقد روى ابن ماجه والترمذي وصححه عن خباب رضي الله عنه أنه قال وقد اكتوى في بطنه سبع كيات " ما أعلم أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لقي من البلاء ما لقيت وهذا والله أعلم قاله خباب رضي الله عنه تسلية للمؤمن المصاب لا على وجه الشكاية . فلولا المداواة جائزة لما اكتوى خباب رضي الله عنه .

وقيل فعل التداوي أفضل من تركه ، وبه قال بعض [ ص: 458 ] الشافعية . وذكر الإمام النووي في شرح مسلم أنه مذهب الشافعية وجمهور السلف وعامة الخلف ، وقطع به ابن الجوزي من أئمتنا في المنهاج والقاضي وابن عقيل وغيرهم ، واختاره الوزير بن هبيرة في الإفصاح . قال ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب . ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه ، فإنه قال لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه . وذكر ابن هبيرة أن علم الطب والحساب والفلاحة فرض كفاية .

وأجاب عن قوله صلى الله عليه وسلم { لا يكتوون ولا يسترقون } بأنهم كانوا في الجاهلية يسترقي الرجل بالكلمات الخبيثة فيوهمه الراقي في ذلك وفي الكي أنهما يمنعانه من المرض أبدا فذلك الذي منع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال والحجامة سنة وهي أقوى دليل على فعل التداوي . وذكر أشياء كثيرة تدل على أن فعل التداوي أولى من تركه .

وقد { قال صلى الله عليه وسلم عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدا ، قالوا : يا رسول الله وما هو ؟ قال الهرم } رواه أبو داود والترمذي وصححه .

وفي مسند الإمام أحمد عن عروة بن الزبير عن خالته عائشة الصديقة رضي الله عنها قالت { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه ، فكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم فيصفون له فنعالجه } .

وفي المسند أيضا عن أنس مرفوعا { إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا } .

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه ; لأنها أعظم بركة من يدي } وفي رواية فيهما { فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به } وفيهما { كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح منه بيده رجاء بركتها } وفيهما عنها رضي الله عنها { أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسترقي من العين } وفيهما عن أم سلمة رضي الله عنها { : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجارية في بيتها رأى في وجهها سفعة يعني صفرة ، فقال بها نظرة استرقوا لها } قوله " بها نظرة [ ص: 459 ] أي عين ، وقيل عين من نظرة الجن ، وقيل فعل التداوي واجب زاد بعضهم إن ظن نفعه .

قال شيخ الإسلام قدس الله روحه : ليس بواجب عند جماهير الأئمة إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد . انتهى . وأحاديث الأمر بالتداوي للإباحة والإرشاد دون الوجوب كما نبه عليه غير واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية