غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في حسن الظن .

فهذا حال السلف رجاء بلا إهمال ، وخوف بلا قنوط . ولا بد من حسن الظن بالله تعالى فمن ثم قال الناظم ( ولاق ) أيها العبد المؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ( بحسن الظن ) بالله تعالى ربك ) جل شأنه وتعالى سلطانه ، فإنه عند ظن عبده به ، فإن لقيته وأنت حسن الظن به ( تسعد ) السعادة الأبدية ، وتسلم السلامة السرمدية . ومفهومه أنك إن لم تلاقيه بحسن الظن تشق شقاوة الأبد ، وتعطب عطبا ما عطبه غيرك أنت وأمثالك [ ص: 467 ] فقد قال عليه الصلاة والسلام { قال الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث ذكرني } الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة .

وأخرج أبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { من حسن الظن العبادة } ورواه الترمذي والحاكم بلفظ { إن حسن الظن بالله من حسن عبادة الله } . وأخرج مسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه أنه { سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل } .

وأخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي عن { حيان أبي النضر قال خرجت عائدا ليزيد بن الأسود فلقيت واثلة بن الأسقع وهو يريد عيادته ، فدخلنا عليه ، فلما رأى واثلة بسط يده وجعل يشير إليه ، فأقبل واثلة حتى جلس فأخذ يزيد بكفي واثلة فجعلهما على وجهه ، فقال له واثلة كيف ظنك بالله ؟ قال ظني بالله والله حسن ، قال فأبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، إن ظن خيرا فله وإن ظن شرا فله } .

وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال " والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه ظنه وذلك بأن الخير في يده .

وروى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا { أمر الله عز وجل بعبد إلى النار ، فلما وقف على شفتها التفت فقال : أما والله يا رب إن كان ظني بك لحسن ، فقال الله عز وجل ردوه أنا عند حسن ظن عبدي بي } .

( تنبيهات ) :

( الأول ) : روى ابن أبي الدنيا عن علي بن بكار رحمه الله تعالى أنه سئل عن حسن الظن بالله تعالى قال : أن لا تجمعك والفجار دار واحدة .

ودعا رجل بعرفات فقال : لا تعذبنا بالنار بعد أن أسكنت توحيدك قلوبنا ، ثم بكى وقال ما إخالك تفعل بعفوك ، ثم بكى وقال ولئن عذبتنا بذنوبنا لتجمعن بيننا وبين أقوام طال ما عاديناهم فيك .

وقال سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام : اللهم لا تشمت من كان يشرك بك بمن كان لا يشرك بك .

[ ص: 468 ] وأخرج ابن أبي الدنيا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا تلا هذه الآية { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } قال : ونحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت أتراك تجمع بين أهل القسمين في دار واحدة . ثم بكى أبو حفص الصيرفي بكاء شديدا .

( الثاني ) : ظن كثير من الجهال أن حسن الظن بالله والاعتماد على سعة عفوه ورحمته مع تعطيل الأوامر والنواهي كاف ، وهذا خطأ قبيح وجهل فضيح ، فإن رجاءك لمرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق كما قاله معروف رحمه الله ورضي عنه . وقال بعض العلماء : من قطع عضوا منك في الدنيا بسرقة ربع دينار لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا . ولم يفرق كثير من الناس بين الرجاء والتمني . والفرق أن الرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ الوسع والطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز . والتمني حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه . قال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله } فطوى سبحانه بساط الرجاء إلا عن هؤلاء وأمثالهم .

قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه الروح الكبرى : الرجاء لعبد قد امتلأ قلبه من الإيمان بالله واليوم الآخر ، فمثل بين عينيه ما وعده الله من كرامته وجنته ، فامتد القلب مائلا إلى ذلك شوقا إليه وحرصا عليه ، فهو شبيه بالماد عنقه إلى مطلوب قد صار نصب عينيه . قال وعلامة الرجاء الصحيح أن الراجي لخوف فوت الجنة وذهاب حظه منها يترك ما يخاف أن يحول بينه وبين دخولها .

وأما الأماني فإنها رءوس أموال المفاليس ، أخرجوها في قالب الرجاء ، وتلك أمانيهم ، وهي تصدر من قلب تزاحمت عليه وساوس النفس فأظلم من دخانها ، فهو يستعمل قلبه في شهواتها ، وكلما فعل ذلك منته حسن العاقبة والنجاة ، وأحالته على العفو والمغفرة ، والفضل ، وأن الكريم لا يستوفي حقه ولا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة ويسمي ذلك رجاء ، وإنما هو وساوس وأماني باطلة تقذف بها النفس إلى القلب الجاهل فيستروح إليها قال تعالى { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا } فإذا قالت لك النفس أنا في مقام الرجاء فطالبها [ ص: 469 ] بالبرهان ، وقل هذه أمنية فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . فالكيس يعمل أعمال البر على الطمع والرجاء . والأحمق العاجز يعطل أعمال البر ويتكل على الأماني التي يسميها رجاء .

والحاصل أن حسن الظن والرجاء إن حمل على العمل وحث عليه وساق إليه فهو صحيح ونافع ، وهو من أجل المقامات ورءوس المعاملات وإن دعا إلى البطالة والتواني والانهماك في المعاصي والأماني والانكباب على الضلالة والأغاني فهو غرور ضار مهلك لصاحبه ، وقاطع له عن ربه ، وقامع لهمته عن حبه .

وحسن الظن هو الرجاء ، فمن كان رجاؤه حاديا له على الطاعة زاجرا له عن المعصية فهو رجاء صحيح ، ومن كانت بطالته رجاء ، ورجاؤه بطالة وتفريطا فهو المغرور ، والله ولي الأمور .

ولو أن رجلا له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه ، فأهملها بلا حرث ولم يبذرها وحسن ظنه بأنه يأتي من مغلها مثل ما أتى من حرث وبذر وسقى وتعاهد الأرض لعده الناس من أسفه السفهاء ، وكذا لو حسن ظنه وقوي رجاؤه أن يأتيه ولد من غير جماع ، أو يصير أعلم زمانه من غير طلب للعلم ، وبذل مجهوده في تحصيله وتقييد شوارده وتحقيق فوائده وأمثال ذلك ، وكذا من حسن ظنه ، وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، من غير عمل ولا طاعة ولا امتثال لما أمر تعالى به واجتناب ما نهى عنه ، فإنه يكون من أسفه السفهاء ويعد من أحمق الحمقاء .

ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئا استلزم رجاؤه أمورا :

أحدها محبة ما يرجوه .

الثاني خوفه من فواته .

الثالث سعيه في تحصيله بحسب الإمكان .

وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني ، والرجاء شيء والأماني شيء فكل راج خائف ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع مخافة الفوات كما ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم { من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل } وهو جل شأنه إنما جعل الرجاء لأهل الأعمال . فعلم أن الرجاء إنما ينفع إذا حث صاحبه على طاعة مولاه .

[ ص: 470 ] والمقصود أن من زعم أنه حسن ظنه بالله مع انهماكه في اللذات وانكبابه على المعاصي والشبهات وإعراضه عن الأوامر والطاعات فهو من الحمق على جانب عظيم ، وإنما الذي عليه أماني وغرور . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وقد ذكرت في كتابي البحور الزاخرة من ذلك طرفا صالحا فإن راجعته ظفرت بمرادك والله أعلم .

( الثالث ) : الفرق بين الرجاء والرغبة أن الرجاء طمع ، والرغبة طلب ، فهي ثمرة الرجاء . فإنه إذا رجا الشيء طلبه ، والرغبة من الرجا كالهرب من الخوف . فمن رجا شيئا طلبه ورغب فيه ، ومن خاف شيئا هرب منه . قال تعالى { يدعوننا رغبا ورهبا } والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية