مطلب هل الملكان يكتبان كل ما يتكلمه الإنسان .
( المسألة الثالثة )
هل الملكان الكريمان الكاتبان يكتبان كل ما يتكلم به الإنسان ، أو لا يكتبان إلا ما فيه ثواب وعقاب ؟
[ ص: 80 ] اختلف العلماء في ذلك على قولين مشهورين . قال
علي بن أبي طلحة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما : يكتب الملك كل ما يتكلم به من خير أو شر ، حتى أنه ليكتب قول أكلت وشربت وذهبت وجئت ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان فيه خير أو شر وألغي سائره ، فذلك قوله تعالى {
يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب }
وقد قال تعالى {
إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } .
قال
الحافظ ابن رجب : وقد أجمع
السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات ، والذي عن شماله يكتب السيئات ، وقد روي ذلك مرفوعا من حديث
أبي أمامة بإسناد ضعيف .
وفي الصحيح {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10353إذا كان أحدكم يصلي فإنه يناجي ربه والملك عن يمينه } . وروي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة مرفوعا {
nindex.php?page=hadith&LINKID=6660أن عن يمينه كاتب الحسنات } .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=17298يحيى بن أبي كثير قال : ركب رجل حمارا فعثر به ، فقال تعس الحمار ، فقال صاحب اليمين ما هي حسنة أكتبها ، وقال صاحب اليسار ما هي سيئة فأكتبها ، فأوحى الله إلى صاحب الشمال ما ترك صاحب اليمين من شيء فاكتبه ، فأثبت في السيئات تعس الحمار . قال
الحافظ : وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة فهو سيئة وإن كان لا يعاقب عليها ، فإن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها ، وقد تقع مكفرة باجتناب الكبائر ، ولكن زمانها قد خسره صاحبها حيث ذهب باطلا ، فيحصل له بذلك حسرة في القيامة وأسف عليه ، وهو نوع عقوبة ، والله تعالى أعلم .
( وإرسال ) أي إطلاق وتسليط ( طرف ) أي عين ( المرء ) بتثليث الميم : الإنسان أو الرجل ولا جمع له من لفظه ، وما قيل إنه جمع مرءون فشاذ ، والأنثى مرأة ويقال مرة والامرأة . وفي امرئ مع ألف الوصل ثلاث لغات فتح الراء دائما وضمها دائما وإعرابها دائما ذكره في القاموس . قال ونقول هذا امرؤ ومرو ورأيت امرأ ومرءا ومررت بامرئ معربا من مكانين انتهى .
والطرف لا يجمع لأنه في الأصل مصدر أو اسم جامع للبصر لا يثنى ولا يجمع ، وقيل أطراف ، والمراد إطلاق بصر الإنسان بالنظر في المحرمات
[ ص: 81 ] أنكى ) أي أشد نكاية . قال في الصحاح والقاموس : نكيت في العدو نكاية إذا قتل فيهم وجرح . يعني أن إرسال الطرف أشد نكاية من حصد اللسان ، فيكب صاحبه في قعر النيران ، إن لم يقيده عما لا يحل إليه من الجواري والغلمان . ولذا قال ( فقيد ) أي احبسه ولا ترسله وتتركه مهملا فإنه يوردك موارد العطب ، ويترك به الوصب والنصب ، وإنما قدم ذكر اللسان وأتبعه بالبصر لما بينهما من الاشتراك والدنو من القلب كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم ولأن أكثر المعاصي إنما تتولد من فضول الكلام وإرسال النظر وهما أوسع مداخل الشيطان ، فإن جارحتهما لا تملآن بخلاف البطن فإنه متى امتلأ لم يبق له في الطعام إرادة .
وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام أبدا ، كما قيل : أربع لا تشبع من أربع : عين من نظر ، وأذن من خبر ، وأرض من مطر ، وأنثى من ذكر . وبعض الناس يقول : عالم من أثر .
ثم إن فضول النظر هو أصل البلاء لأنه رسول الفرج ، فمن ثم قال الناظم رحمه الله تعالى : وطرف الفتى يا صاح رائد فرجه ومتعبه فاغضضه ما اسطعت تهتد ( وطرف الفتى ) أي بصره ونظره ( يا صاح ) مرخم صاحب وترخيمه شاذ لأنه ليس بعلم ، ولكنه لما كثر نداؤه واستفاض تداوله ساغ ترخيمه ، إذ الإنسان لا ينفك في سفره وإقامته من صاحب يعينه فيناديه عند الحاجة إليه ( رائد ) أي رسول ( فرجه ) أي فرج الفتى واشتقاقه من الرود . قال في القاموس : الرائد المرسل في طلب الكلإ . انتهى .
وفي الحديث {
الحمى رائد الموت } رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12455ابن أبي الدنيا وغيره من وجوه متعددة . ذكره الإمام
الحافظ ابن رجب في كتابه البشارة العظمى في أن حظ المؤمن من النار الحمى . والفرج العورة كما في القاموس .
وقال
الحجاوي في لغة إقناعه : والفرج من الإنسان يطلق على القبل والدبر ، لأن كل واحد منهما منفرج أي منفتح ، وأكثر استعماله عرفا في القبل ( و ) طرف الفتى ( متعبه ) أي سبب تعبه وسلبه الاستراحة متى أرسله ولم يغضضه ، ومن ثم قال ( فاغضضه ) أي اخفضه واحتمل المكروه منه .
قال في النهاية : غض
[ ص: 82 ] طرفه أي كسره وأطرق ولم يفتح عينه .
وفي قصيدة
كعب وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول