مطلب : في الحث على العمل بالعلم .
ولما كان
المقصود من العلم العمل ، فمن تركه لم ينل إلا الخيبة والوجل ، والندامة والخجل . أمرك
الناظم به فقال : وكن عاملا بالعلم فيما استطعته ليهدى بك المرء الذي بك يقتدي ( وكن ) أيها الطالب ، الذي في مرضاة مولاك راغبا ( عاملا بالعلم ) الذي بذلت وسعك في تحصيله ، وتبويبه وتفصيله ، وتركت فيه الرقاد ، ورفضت لأجله المهاد والوساد ، وصرمت النساء والأولاد ، وهجرت الوطن والميلاد ، وألفت السهاد ، وعزفت الأخدان والأحفاد ، والإخوان والأجداد ( فيما ) أي القدر الذي ( استطعته ) من ذلك ، ومعنى استطاع أطاق ، ويقال اسطاع بحذف التاء استثقالا لها مع الطاء ، ويكرهون إدغام الطاء فيها فتحرك السين وهي لا تحرك أبدا ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=135حمزة {
فما اسطاعوا } بالإدغام ، فجمع بين الساكنين ، وتقدم ذلك ، وهذا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=28779كل علم وبال على صاحبه إلا من عمل به } رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني في الكبير من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=105واثلة بن الأسقع .
ولما روى الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=17154منصور بن زاذان قال : نبئت أن بعض من يلقى في النار تتأذى أهل النار بريحه ، فقال له : ويلك ما كنت تعمل أما يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك وبنتن ريحك ، فيقول كنت عالما فلم أنتفع بعلمي . فاعمل أيها الأخ بعلمك لتسلم من هذا الوعيد الشديد و ( ليهدى ) أي يرشد ويسعد بالاقتداء ( بك ) أي بعملك الصالح ، وكدحك الناجح ( المرء ) أي الإنسان من ذكر وأنثى ( الذي بك ) أي بعملك وجدك واجتهادك في عبادة الله تعالى ( يقتدي ) أي يتبع ويستن بسنتك ، مشتق من القدوة بتثليث القاف وكعدة ما سننت به واقتديت به .
قال في الفروع : وليحذر العالم وليجتهد فإن ذنبه أشد . نقل
المروذي [ ص: 521 ] عن الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد رضي الله عنه قال : العالم يقتدى به ليس العالم مثل الجاهل .
ومعناه
nindex.php?page=showalam&ids=16418لابن المبارك وغيره .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14919الفضيل بن عياض : يغفر لسبعين جاهلا قبل أن يغفر لعالم واحد .
قال : وقال شيخنا - يعني شيخ الإسلام
ابن تيمية قدس الله روحه - : أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فذنبه من جنس ذنب
اليهود .
وقد قدمنا في صدر هذا الكتاب طرفا صالحا من هذا الباب . وفي القول العلي لشرح أثر سيدنا الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=8علي ما يكفي ويشفي .
والحاصل
أن الناس في هذا الباب على أربعة أقسام :
القسم الأول : من رزق علما وأعين بقوة العزيمة على العمل به ، وهم خلاصة الخلق ومراد الحق جل شأنه في قوله : {
والذين آمنوا وعملوا الصالحات } .
الثاني : من حرمهما معا ، وهم شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون فهؤلاء شر البرية ، يضيقون الديار ، ويغلون الأسعار ، وعند أنفسهم أنهم يعلمون ، ولكن ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون . كما قيل فيهم وفي أضرابهم وجلهم إذا فكرت فيهم حمير أو كلاب أو ذئاب . وكقول
nindex.php?page=showalam&ids=13823البحتري :
لم يبق من جل هذا الناس باقية
ينالها الوهم إلا هذه الصور
الثالث : من فتح عليه باب العلم وأغلق عنه باب العمل والعزم ، فهذا في رتبة الجاهل بل شر منه . وعند
أبي نعيم مرفوعا {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه } وتقدم قريبا ، فهذا جهله وعلمه سواء ، بل ربما كان جهله أخف لعذابه من علمه ، فما زاده العلم إلا وبالا ، مع عدم الطمع في صلاحه ، بخلاف التائه عن الطريق فإنه يرجى له العود إليها إذا أبصرها ، وأما من رآها وحاد عنها فمتى ترجى هدايته ؟ ، الرابع : من رزق حظا من العمل والإرادة ولكن قل نصيبه من العلم والمعرفة ، فهذا إذا وافق له الاقتداء بداع من دعاة الله ورسوله كان من الذين قال فيهم الله تعالى : {
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } الآية . ويقال : إذا فسد العالم فسد لفساده العالم .
[ ص: 522 ] وعن
عمرو بن عوف رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12741إني أخاف على أمتي من ثلاث : من زلة عالم ، ومن هوى متبع ، ومن حكم جائر } رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني والله أعلم .
وكن حريصا على نفع الورى وهداهم تنل كل خير في نعيم مؤبد
( وكن ) أيضا ( حريصا على نفع الورى ) كفتى الخلق ، أي كما أنه أمرك أن تكون عاملا بالعلم أمرك أيضا أن تكون حريصا مجتهدا على نفع الخلق ; لأنهم عيال الله ، فأحب الخلق إلى الله أبرهم لعياله ( و ) كن حريصا أيضا على ( هداهم ) إلى الصراط المستقيم ، والطريق القويم ، ونجاتهم من الغي والضلالة ، والمهلكة والجهالة ( تنل ) بسبب ذلك من المالك ( كل خير ) من خيري الدنيا والآخرة من تخليد الذكر والثناء ، وإدامة العلم والسناء ، والقرب إلى رب الأرض والسماء ، ونور البصيرة والنجاة من الحيرة مع نور اليقين ، وكشف العارفين ، والتلذذ بمناجاة رب العالمين ، ومجاورته في دار الخلد السرمدي ( في نعيم مؤبد ) لا يزول أبدا في دار لا تبلي ثيابها ، ولا يفنى شبابها . وقدمنا في صدر الكتاب بعض أخبار وآثار في هذا المعنى ، فلا حاجة إلى الإعادة والله الموفق .