صفحة جزء
الآية التاسعة عشرة قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم } .

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى : في سبب نزولها : قال ابن عباس : حتى يثخن في الأرض ، وذلك يوم بدر ، والمسلمون قليل ، فلما كثروا قال الله : { فإما منا بعد وإما فداء } ، فخيرهم الله تعالى ، وهكذا قال كثير من المفسرين بعده .

وعن عبد الله قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما تقولون في هؤلاء الأسرى ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ; قومك وأهلك ، فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم . قال عمر : يا رسول الله ; كذبوك وأخرجوك ، قدمهم واضرب أعناقهم . وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ; انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرمه عليهم نارا . فقال له العباس : قطعت رحمك . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر . وقال ناس : يأخذ بقول عمر . وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة . [ ص: 431 ] ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن الله ليلين قلوب قوم حتى تكون ألين من اللين ، ويشد قلوب قوم حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال : { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } . ومثل عيسى حين قال : { إن تعذبهم فإنهم عبادك } . ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } . ومثل موسى إذ قال : { ربنا اطمس على أموالهم } ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم اليوم عالة فلا يفلتن رجل منهم إلا بفداء أو ضربة عنق . فقال عبد الله : يا رسول الله ، إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام . فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل ابن بيضاء } . رواه الترمذي مختصرا عن أقوال أبي بكر وعمر وابن رواحة

، ورواه مسلم عن عمر بن الخطاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لما أسروا الأسرى لأبي بكر وعمر : ما ترون ؟ قال أبو بكر : يا نبي الله ، هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية ، فتكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا ابن الخطاب ؟ قلت : والله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان نسيب بأحال فأضرب عنقه ; فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها . فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت . فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت : يا رسول الله ; أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من رسول الله [ ص: 432 ] صلى الله عليه وسلم } .

فأنزل الله : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } إلى قوله : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } فأحل الله الغنيمة لهم ، وأنزل الله : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا يعني الفداء ، والله يريد الآخرة يعني إعزاز الدين وأهله ، وإذلال الكفر وأهله .

المسألة الثانية : روى عبيدة السلماني عن علي أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فخيره بين أن يقرب الأسارى فيضرب أعناقهم ، أو يقبلوا منهم الفداء ، ويقتل منكم في العام المقبل بعدتهم .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هذا جبريل يخبركم أن تقدموا الأسارى فتضربوا أعناقهم ، أو تقبلوا منهم الفداء ، ويستشهد منكم في العام المقبل بعدتهم } .

فقالوا : يا رسول الله ; بل نأخذ الفداء فنقوى على عدونا ، ويقتل منا في العام المقبل بعدتهم ، ففعلوا .

المسألة الثالثة : قال ابن وهب ، وابن القاسم عن مالك : كان ببدر أسارى مشركون ، فأنزل الله : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } وكانوا يومئذ مشركين ، ففادوا ورجعوا ، ولو كانوا مسلمين لأنابوا ولم يرجعوا ، وكان عدة من قتل أربعة وأربعين رجلا ، ومثلهم أسرى ، وكان الشهداء قليلا .

وقال أبو عمرو بن العلاء : إن القتلى كانوا سبعين والأسرى كذلك .

وكذلك قال [ ص: 433 ] ابن عباس ، وابن المسيب ، ويشهد له قوله : { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } .

وأنشد أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك :

فأقام بالعطن المعطن منهم سبعون عتبة منهم والأسود

وإنما قال مالك : وكانوا مشركين ، ولو كانوا مسلمين لأقاموا ولم يرجعوا ; لأن المفسرين رووا أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني مسلم .

وفي رواية لهم : إن الأسرى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بك وبما جئت به ولننصحن لك على قومنا ، فنزلت : { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } ، قال العباس : افتديت بأربعين أوقية ، وقد آتاني الله أربعين عبدا ، وإني لأرجو المغفرة .

وهذا كله ضعفه مالك ، واحتج على إبطاله بما ذكر من رجوعهم إلى موضعهم ، وزيادة عليه أنهم غزوه يوم أحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية