المقام العاشر :
أن هذه الآية نص في غرضنا ، دليل على صحة مذهبنا ، أصل في
براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه أنه قاله عندنا ، وذلك أنه قال تعالى : {
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه أنهم إذا قالوا عن الله قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه ، كما يفعل سائر المعاصي ، كما تقول : ألقيت في الدار كذا ، وألقيت في العكم كذا ، وألقيت في الكيس كذا .
فهذا نص في أن الشيطان زاد في الذي قاله
[ ص: 307 ] النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي قاله ; وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ تلا قرآنا مقطعا ، وسكت في مقاطع الآي سكوتا محصلا ، وكذلك كان حديثه مترسلا متأنيا ، فيتبع الشيطان تلك السكتات التي بين قوله : {
ومناة الثالثة الأخرى } وبين قوله تعالى : {
ألكم الذكر وله الأنثى } ، فقال يحاكي صوت النبي صلى الله عليه وسلم : وإنهن الغرانقة العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى .
فأما المشركون والذين في قلوبهم مرض لقلة البصيرة وفساد السريرة فتلوها عن النبي صلى الله عليه وسلم ونسبوها بجهلهم إليه ، حتى سجدوا معه اعتقادا أنه معهم ، وعلم الذين أوتوا العلم والإيمان أن القرآن حق من عند الله فيؤمنون به ، ويرفضون غيره ، وتجيب قلوبهم إلى الحق ، وتنفر عن الباطل ; وكل ذلك ابتلاء من الله ومحنة .
فأين هذا من قولهم ، وليس في القرآن إلا غاية البيان بصيانة النبي صلى الله عليه وسلم في الإسرار والإعلان عن الشك والكفران .
وقد أوعدنا إليكم توصية أن تجعلوا القرآن إمامكم ، وحروفه أمامكم ، فلا تحملوا عليها ما ليس فيها ، ولا تربطوا فيها ما ليس منها ، وما هدي لهذا إلا
الطبري بجلالة قدره ، وصفاء فكره ، وسعة باعه في العلم ، وشدة ساعده وذراعه في النظر ; وكأنه أشار إلى هذا الغرض ، وصوب على هذا المرمى فقرطس بعدما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطلة ، لا أصل لها ، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها ، ولكنه فعال لما يريد ، عصمنا الله وإياكم بالتوفيق والتسديد ، وجعلنا من أهل التوحيد بفضله ورحمته . .