الآية الثانية قوله تعالى : {
يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور } .
فيها سبع مسائل : المسألة الأولى المحراب : هو البناء المرتفع الممتنع ، ومنه يسمى المحراب في المسجد ; لأنه أرفعه ، أنشد فقيه
المسجد الأقصى عطاء الصوفي :
جمع الشجاعة والخضوع لربه ما أحسن المحراب في المحراب
والجفان أكبر الصحاف قال الشاعر :
يا جفنة بإزاء الحوض قد كفئت ومنطقا مثل وشي البردة الخضر
والجوابي جمع جابية ، وهي الحوض العظيم المصنوع قال الشاعر يصف جفنة :
كجابية الشيخ العراقي تفهق
[ ص: 6 ] {
وقدور راسيات } يعني ثابتات ; قال الله تعالى : {
والجبال أرساها } .
المسألة الثانية شاهدت
محراب داود عليه السلام في
بيت المقدس بناء عظيما من حجارة صلدة لا تؤثر فيها المعاول ، طول الحجر خمسون ذراعا ، وعرضه ثلاثة عشر ذراعا ، وكلما قام بناؤه صغرت حجارته ، ويرى له ثلاثة أسوار ; لأنه في السحاب أيام الشتاء كلها لا يظهر لارتفاع موضعه وارتفاعه في نفسه ، له باب صغير ومدرجة عريضة ، وفيه الدور والمساكن ، وفي أعلاه المسجد ، وفيه كوة شرقية إلى
المسجد الأقصى في قدر الباب ، ويقول الناس : إنه تطلع منها على المرأة حين دخلت عليه الحمامة ، وليس لأحد في هدمه حيلة ، وفيه نجا من نجا من المسلمين حين دخلها
الروم حتى صالحوا على أنفسهم بأن أسلموه إليهم ، على أن يسلموا في رقابهم وأموالهم ، فكان ذلك ، وتخلوا لهم عنه .
ورأيت فيه غريبة الدهر ، وذلك أن ثائرا ثار به على واليه ، وامتنع فيه بالقوت ، فحصره ، وحاول قتاله بالنشاب مدة ، والبلد على صغره مستمر على حاله ، ما أغلقت لهذه الفتنة سوق ، ولا سار إليها من العامة بشر ، ولا برز للحال من
المسجد الأقصى معتكف ، ولا انقطعت مناظرة ، ولا بطل التدريس ، وإنما كانت العسكرية قد تفرقت فرقتين يقتتلون ، وليس عند سائر الناس لذلك حركة ، ولو كان بعض هذا في بلادنا لاضطرمت نار الحرب في البعيد والقريب ، ولانقطعت المعايش . وغلقت الدكاكين ، وبطل التعامل لكثرة فضولنا وقلة فضولهم .