الآية الموفية خمسين :
قوله تعالى : {
واذكروا الله في أيام معدودات } فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : لا خلاف أن المراد بالذكر هاهنا التكبير . وأما التلبية فاعلموا أنها مشروعة إلى رمي الجمرة
بالعقبة ; لأنه ثبت {
nindex.php?page=hadith&LINKID=33056عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة } .
[ ص: 198 ] المسألة الثانية : في تحديد هذه الأيام وتعيينها ، وهي مسألة غريبة : قال علماؤنا :
أيام الرمي معدودات ، وأيام النحر معلومات ; فاليوم الأول معلوم غير معدود ، واليومان بعد يوم النحر معلومان معدودان ، واليوم الرابع معدود غير معلوم ; والذي أصارهم إلى ذلك أنهم قالوا : المراد بقوله تعالى : {
واذكروا الله في أيام معدودات } بعد قوله تعالى : {
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } أنها أيام
منى ، وأن المراد بالذكر
التكبير عند الرمي فيها .
واعلموا أن
أيام منى ثلاثة ، روى
الترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15395والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35407من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك . أيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه } ، فلما قال الله تعالى : {
فإذا أفضتم من عرفات } وذلك بعد غروب الشمس من يوم
عرفة ، فاذكروا الله عند
المشعر الحرام ، وذلك الغد من يوم النحر ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حسبما تقدم ، ثم أفيضوا يعني : إلى
منى على التقدير المتقدم في المسألة الثانية من الآية قبل هذه الآية ، فصار ذلك اليوم أوله
للمشعر الحرام وآخره
لمنى ، فلما لم يختص
بمنى لم يعد فيها ، وصارت أيام
منى ثلاثة سوى يوم النحر ; لأنه أقل الجمع في الأظهر عند الإطلاق حسبما بيناه في كتب الأصول ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالعمل الذي يرفع الإشكال قال حينئذ علماؤنا : اليوم الأول غير معدود ، لأنه ليس من الأيام التي تختص
بمنى في قوله تعالى : {
واذكروا الله في أيام معدودات } ولا من التي عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=8927أيام منى ثلاثة } ، وكان معلوما لأن الله تعالى قال : {
ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } . ولا خلاف أن المراد به النحر ، وكان النحر في اليوم الأول وهو يوم الأضحى والثاني والثالث ، ولم يكن في الرابع نحر ; فكان الرابع غير مراد في قوله تعالى : {
معلومات } ; لأنه لا ينحر فيه ، وقد بينا ذلك في موضعه ، وكان مما يرمى فيه ; فصار معدودا في ذلك لأجل الرمي ، غير معلوم لعدم النحر فيه .
[ ص: 199 ] والحقيقة أن يوم النحر معدود بالرمي معلوم بالذبح ، لكنه عند علمائنا ليس مرادا في قوله تعالى : {
واذكروا الله في أيام معدودات } .
فإن قيل : فلم لا يكون كما قلتم يوم النحر مرادا في المعدودات وتكون المعدودات أربعة والمعلومات ثلاثة ؟ وكما يعطي ذكر الأيام ثلاثة كذلك يقتضي أربعة .
فالجواب : أنا لا نمنع أن يسمى بمعدود ولا بمعلوم ; لأن كل معدود معلوم ، وكل معلوم معدود ، لكن يمنع أن يكون مرادا بذكر المعدودات هاهنا من وجهين : أحدهما أن يوم النحر كما قدمنا قد استحق أوله الوقوف
بالمشعر الحرام ، ومنه تكون الإفاضة إلى
منى ; فصار ذلك اليوم يوم الإفاضة ، وبعده قال الله تعالى : {
واذكروا الله في أيام معدودات } الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=8927أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } .
ولو كان يوم النحر معدودا منها لاقتضى مطلق هذا القول لمن نفر في يوم ثاني النحر أن ذلك جائز ، ولا خلاف أن ذلك ليس له ، فتبين أنه غير معدود فيها لا قرآنا ولا سنة ، وهذا منتهى بديع .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : الأيام المعلومات أيام العشر ، ورووا ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وظاهر الآية يدفعه ; فلا معنى للاشتغال به .
المسألة الثالثة : في المراد بهذا الذكر : لا خلاف أن المخاطب به هو الحاج ، خوطب بالتكبير عند رمي الجمار ، فأما غير الحاج فهل يدخل فيه أم لا ؟ وهل هو أيضا خطاب للحاج بغير التكبير عند الرمي ؟ فنقول : أجمع فقهاء الأمصار والمشاهير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على أن المراد به
التكبير لكل أحد ، وخصوصا في أوقات الصلوات ; فيكبر عند انقضاء كل صلاة ، كان المصلي في جماعة أو وحده يكبر تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام . لكن اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال :
[ ص: 200 ] الأول : أنه يكبر من صلاة الصبح يوم
عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق ; قاله
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه ،
nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبو يوسف nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد صاحبه [
nindex.php?page=showalam&ids=15215والمزني ] .
والثاني : مثله في الأول ، ويقطع العصر من يوم النحر ; قاله
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ،
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة .
الثالث : يكبر من ظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق ; قاله
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت .
الرابع : يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى بعد صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ; قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي .
فأما من قال : إنه يكبر
عرفة ويقطع العصر يوم النحر فقد خرج عن الظاهر ; لأن الله تعالى قال : {
في أيام معدودات } وأقلها ثلاثة ، وقد قال هؤلاء : يكبر في يومين ; فتركوا الظاهر لغير دليل ظاهر .
وأما من قال يوم
عرفة وأيام التشريق فقال : إنه تعالى قال : {
فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله } فذكر
عرفات داخل في ذكر الأيام ، وهذا كان يصح لو قال يكبر من المغرب يوم
عرفة ، لأن وقت الإفاضة حينئذ ، فأما قبل ذلك فلا يقتضيه ظاهر اللفظ .
وأما من قال : يكبر يوم
عرفة من الظهر ، فهو ظاهر في متعلق قوله تعالى : {
في أيام معدودات } لكن يلزمه أن يكون من يوم التروية عند الحلول
بمنى .
ومن قصره على صلاة الصبح من اليوم الرابع فقد بينا مأخذه في مسائل الخلاف .
والتحقيق أن التحديد بثلاثة أيام ظاهر ، وأن تعينها ظاهر أيضا بالرمي ، وأن سائر أهل الآفاق تبع للحاج فيها ، ولولا الاقتداء بالسلف لضعف متابعة الحاج من بين سائر أهل الآفاق إلا في التكبير عند الذبح ، والله عز وجل أعلم .