صفحة جزء
المسألة الثامنة : قوله : { فإن بغت إحداهما على الأخرى } بناء ( ب غ ي ) في لسان العرب الطلب قال الله تعالى : { ذلك ما كنا نبغ } ; ووقع التعبير به هاهنا عمن يبغي ما لا ينبغي على عادة اللغة في تخصيصه ببعض متعلقاته [ ص: 129 ] وهو الذي يخرج على الإمام يبغي خلعه أو يمنع من الدخول في طاعة له ، أو يمنع حقا يوجبه عليه بتأويل ; فإن جحده فهو مرتد .

وقد قاتل الصديق رضي الله عنه البغاة والمرتدين ; فأما البغاة فهم الذين منعوا الزكاة بتأويل ، ظنا منهم أنها سقطت بموت النبي صلى الله عليه وسلم ; وأما المرتدون فهم الذين أنكروا وجوبها ، وخرجوا عن دين الإسلام بدعوى نبوة غير محمد صلى الله عليه وسلم .

والذي قاتل علي طائفة أبوا الدخول في بيعته ، وهم أهل الشام ; وطائفة خلعته ، وهم أهل النهروان .

وأما أصحاب الجمل فإنما خرجوا يطلبون الإصلاح بين الفرقتين . وكان من حق الجميع أن يصلوا إليه ويجلسوا بين يديه ، ويطالبوه بما رأوا أنه عليه ; فلما تركوا ذلك بأجمعهم صاروا بغاة بجملتهم ، فتناولت هذه الآية جميعهم .

المسألة التاسعة : قال علماؤنا في رواية سحنون : إنما يقاتل مع الإمام العدل سواء كان الأول أو الخارج عليه ; فإن لم يكونا عدلين فأمسك عنهما إلا أن تراد بنفسك أو مالك أو ظلم المسلمين فادفع ذلك .

المسألة العاشرة : لا تقاتل إلا مع إمام [ عادل ] يقدمه أهل الحق لأنفسهم ، ولا يكون إلا قرشيا ، وغيره لا حكم له ، إلا أن يدعو إلى الإمام القرشي ; قاله مالك ; لأن الإمامة لا تكون إلا لقرشي .

وقد روى ابن القاسم ، عن مالك : إذا خرج على الإمام العدل خارج وجب الدفع عنه ، مثل عمر بن عبد العزيز ، فأما غيره فدعه ينتقم الله من ظالم بمثله ثم ينتقم من كليهما . قال الله تعالى : { فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا } .

قال مالك : إذا بويع للإمام فقام عليه إخوانه قوتلوا إذا كان الأول عدلا ، فأما هؤلاء فلا بيعة لهم إذا كان بويع لهم على الخوف . [ ص: 130 ] قال مالك : ولا بد من إمام بر أو فاجر .

وقال ابن إسحاق في حديث يرويه معاوية { : إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا أحدهما ; وقد بلغني أنه كان يقول : لا تكرهوا الفتنة فإنها حصاد المنافقين } . المسألة الحادية عشرة لا يقتل أسيرهم ، ولا يتبع منهزمهم ; لأن المقصود دفعهم لا قتلهم .

وأما الذي يتلفونه من الأموال فعندنا أنه لا ضمان عليهم في نفس ولا مال .

وقال أبو حنيفة : يضمنون ، وللشافعي قولان : وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان ، فليلزم الضمان .

والمعول في ذلك كله عندنا على ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم في خروجهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ، ولا قتلوا أسيرا ، ولا ضمنوا نفسا ولا مالا ; وهم القدوة والله أعلم بما كان في خروجهم من الحكمة في بيان أحكام قتال البغاة بخلاف الكفرة . المسألة الثانية عشرة إن ولوا قاضيا ، وأخذوا زكاة ، وأقاموا حقا بعد ذلك كله جاز ; قاله مطرف وابن الماجشون .

وقال ابن القاسم : لا يجوز بحال .

وروي عن أصبغ أنه جائز . وروي عنه أيضا أنه لا يجوز كقول ابن القاسم . وقاله أبو حنيفة ; لأنه عمل بغير حق ممن لا يجوز توليته ، فلم يجز كما لو كانوا بغاة .

العمدة لنا ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم [ في خروجهم ] لم يتبعوا مدبرا ، ولا ذففوا على جريح ، ولا قتلوا أسيرا ، ولا ضمنوا نفسا ولا مالا ، وهم القدوة . والله أعلم .

وأن الصحابة لما انجلت الفتنة ، وارتفع الخلاف بالهدنة والصلح لم يعرضوا لأحد منهم في حكم .

قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه : الذي عندي أن ذلك لا يصلح ; لأن الفتنة لما انجلت كان الإمام هو الباغي ، ولم يكن هناك من يعترضه . والله أعلم .

فإن قيل : فأهل ما وراء النهر وإن لم يكن لهم إمام ، ولم يعترض لهم حكم ، [ ص: 131 ] قلنا : ولا سمعنا أنهم كان لهم حكم ; وإنما كانوا فتنة مجردة ، حتى انجلت مع الباغي لسكت عنهم لئلا يعضد باعتراضه من خرجوا عليه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية