[ ص: 42 ] الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى : {
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم }
فيها تسع مسائل : المسألة الأولى : ذكر
الطبري وغيره في قصص هذه الآية : أن
سليمان صلى الله عليه وسلم كانت له امرأة يقال لها :
الجرادة ، تكرم عليه ويهواها ، فاختصم أهلها مع قوم فكان صغو
سليمان عليه السلام إلى أن يكون الحكم لأهل
الجرادة ، فعوقب ، وكان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يخلو بإحدى نسائه أعطاها خاتمه ، ففعل ذلك يوما فألقى الله تعالى صورته على شيطان ، فجاءها فأخذ الخاتم فلبسه ، ودانت الجن والإنس له ، وجاء
سليمان عليه السلام بعد ذلك يطلبه ، فقالت : ألم تأخذه ؟ فعلم أنه ابتلي ، وعلمت الشياطين أن ذلك لا يدوم لها ; فاغتنمت الفرصة فوضعت أوضاعا من السحر والكفر وفنونا من النيرجات وسطروها في مهارق ، وقالوا : هذا ما كتب
آصف بن برخيا كاتب نبي
[ ص: 43 ] الله
سليمان ، فدفنوها تحت كرسيه : وعاد
سليمان إلى حاله ، واستأثر الله تعالى به ، فقالت الشياطين للناس : إنما كان
سليمان يملككم بأمور أكثرها تحت كرسيه ، فيها علوم غريبة ; فدونكم فاحتفروا عليها ، ففعلوا واستثاروها ، فنفذ عليهم القضاء فصار في أيديهم ، وتناقلته الكفرة والفلاسفة عنهم حتى وصل ذلك إلى
يهود الحجاز ، فكانوا يعملونه ويعلمونه ويصرفونه في حوائجهم ومعايشهم ; وكانوا بين جاهلية جهلاء وأمة عمياء ; فلما بعث الله تعالى
محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، ونور القلوب ، وكشف قناع الألباب ، لجأت
اليهود إلى أن تعلق ما كان عندها من ذلك
لسليمان عليه السلام وتزعم أنه مما نزل به
جبريل وميكائيل عليهما السلام على
سليمان صلى الله عليه وسلم وكان ذلك قد حمل قوما قبل البعث على أن يتبرءوا من
سليمان عليه السلام فأنزل الله تعالى الآية .
المسألة الثانية : هذا الذي ذكرنا آنفا مما فيه الحرج في ذكره عن
بني إسرائيل لما قدمناه من أنه إنما أذن لنا أن نتحدث عنهم في حديث يعود إليهم ، وما كنا لنذكر هذا لولا أن الدواوين قد شحنت به .
أما قولهم : إن
سليمان كان صغوه صحة الحكم لقوم
الجرادة ، فباطل قطعا ; لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يجوز ذلك عليهم إجماعا فإنهم معصومون عن الكبائر باتفاق .
وأما قولهم بأن شيطانا تصور في صورة ملك أو نبي ، فأخذ الخاتم ، فباطل قطعا ; لأن الشياطين لا تتصور على صور الأنبياء ; وقد بينا ذلك مبسوطا في " كتاب النبي " .
وأما دفنها تحت كرسي
سليمان عليه السلام فيمكن ألا يعلم بذلك وتبقى حتى يفتتن بها الخلق بعده .
وقد روي أن
سليمان عليه الصلاة والسلام أخذها ودفنها تحت كرسيه ، وذلك مما
[ ص: 44 ] لا يجوز عليه وأنه لم يكن سحرا ، أما لو علم أنها سحر فحقها أن تحرق أو تغرق ، ولا تبقى عرضة للنقل والعمل .
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {
واتبعوا } : قيل :
يهود زمان
سليمان ، وقيل
يهود زماننا ، واللفظ فيهم عام ، ولجميعهم محتمل ، وقد كان الكل منهم متبعا لهذا الباطل .
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {
ما تتلوا الشياطين }
اختلف الناس في حرف " ما " : فمنهم من قال : إنه نفي ، ومنهم من قال : إنه مفعول ، وهو الصحيح .
ولا وجه لقول من يقول : إنه نفي ، لا في نظام الكلام ، ولا في صحة المعنى ، ولا يتعلق من كونه مفعولا سياق الكلام بمحال عقلا ، ولا يمتنع شرعا .
وتقريره : واتبع
اليهود ما تلته الشياطين من السحر على ملك
سليمان ، أي نسبته إليه وأخبرت به عنه ، كقوله تعالى {
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته ما لم يلقه النبي ، يحاكيه ويلبس على السامعين به حسبما بيناه .
وما كفر
سليمان قط ولا سحر ، ولكن الشياطين كفروا بسحرهم ، وأنهم يعلمونه الناس ;
ومعتقد الكفر كافر ، وقائله كافر ، ومعلمه كافر ، ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين
ببابل هاروت وماروت ، وما كان الملكان يعلمان أحدا حتى يقولا : {
إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم }