[ ص: 96 ] المسألة التاسعة :
قوله تعالى : {
فمن عفي له من أخيه شيء } إلى آخرها : قال
القاضي رضي الله عنه : هذا قول مشكل تبلدت فيه ألباب العلماء ، واختلفوا في مقتضاه . فقال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك في رواية
ابن القاسم : موجب العمد القود خاصة ، ولا سبيل إلى الدية إلا برضا من القاتل ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة
وروى
أشهب عنه أن
الولي مخير بين أحد أمرين إن شاء قتل ، وإن شاء أخذ الدية ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
وكاختلافهم اختلف من مضى من
السلف قبلهم وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : " العفو أن تقبل الدية في العمد ، فيتبع بمعروف وتؤدى إليه بإحسان " يعني يحسن في الطلب من غير تضييق ، ولا تعنيف ، ويحسن في الأداء من غير مطل ولا تسويف .
ونحوه عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء والسدي زاد
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36448من زاد أو ازداد بعيرا يعني في إبل الدية ، فمن أمر الجاهلية } ، وكأنه يعني فاتباع بالمعروف لا يزاد على الدية المعروفة في الشرع .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : تفسيره من أعطي من أخيه شيئا من العقل فليتبعه بالمعروف ; فعلى هذا الخطاب للولي ، قيل له : إن أعطاك أخوك القاتل الدية المعروفة فاقبل ذلك منه واتبعه .
وقال أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : تفسيره إذا أسقط الولي القصاص ، وعين له من الواجبين له الدية فاتبعه على ذلك أيها الجاني على هذا المعروف ، وأد إليه بإحسان .
وهذا يدور على حرف ، وهو معرفة تفسير العفو ، وله في اللغة خمسة موارد : الأول : العطاء ، يقال : جاد بالمال عفوا صفوا ، أي مبذولا من غير عوض . الثاني : الإسقاط ، ونحوه : {
واعف عنا } {
nindex.php?page=hadith&LINKID=40805وعفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق } .
[ ص: 97 ] الثالث : الكثرة ، ومنه قوله تعالى {
حتى عفوا } أي كثروا ، ويقال : عفا الزرع ، أي طال . الرابع : الذهاب ، ومنه قوله : عفت الديار . الخامس : الطلب ، يقال : عفيته وأعفيته ، ومنه قوله : ما أكلت العافية فهو صدقة ، ومنه قول الشاعر :
تطوف العفاة بأبوابه كطوف النصارى ببيت الوثن
وإذا كان مشتركا بين هذه المعاني المتعددة وجب عرضها على مساق الآية ، ومقتضى الأدلة ; فالذي يليق بذلك منها العطاء أو الإسقاط ; فرجح
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي الإسقاط ; لأنه ذكر قبله القصاص ، وإذا ذكر العفو بعد العقوبة كان في الإسقاط أظهر .
ورجح
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وأصحابه العطاء ; لأن العفو إذا كان بمعنى الإسقاط وصل بكلمة " عن " كقوله تعالى : {
واعف عنا } وكقوله صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=21620عفوت لكم عن صدقة الخيل } ، وإذا كانت بمعنى العطاء كانت صلته له ; فترجح ذلك بهذا ; وبوجه ثان ، وهو أن تأويل
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك هو اختيار خبر القرآن ، ومن تابعه كما تقدم ; وبوجه ثالث ، وهو أن الظاهر في الجزاء أن يعود على ما كان عليه الشرط ، والجزاء عائد إلى الولي ، فليعد إليه الشرط ، ويكون المراد بمن ، من كان المراد بالأمر بالاتباع .
الرابع : أنه تعالى قال : {
شيء } فنكر ، ولو كان المراد القصاص لما نكره ، لأنه معرف ; وإنما يتحقق التنكير في جانب الدية وما دونه . وينفصل أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي عن ترجيح المالكية بأن العلة تتحقق إذا كان معنى عفا أسقط ; لأن تفسيره " ترك " وكلمة " له " تتصل بترك ، كما تتصل بأخذ
[ ص: 98 ]
وأما قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فقد اختلف في ذلك ; فروي عنه أنه قال بمثل قولنا ، وأما الجزاء فقد يعود على من لا يعود عليه الشرط ، فتقول : من دخل من عبيدي الدار فصاحبه حر ، وإن دخل عمرو الدار فعبدي حر ، وأما فصل النكرة فغير لازم ; فإن القصاص قد يكون نكرة وهو إذا عفا أحد الأولياء فتبعض القصاص فيعود البعض منكرا .
وهذا كما ترون تعارض عظيم ، وإشكال بين ، وترجيح من الوجهين ظاهر ، إلا أن رواية
أشهب أظهر لوجهين : أحدهما الأثر ، والآخر النظر ; أما الأثر فقوله عليه السلام : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=24895فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ; إما أن يفدي وإما أن يقتل } .
وقد ذكرنا في شرح الصحيح كيفية الروايات واستيفاء ما يتعلق بالحديث .
ولبابه هاهنا أن الحرف الأول فيه روايتان : إحداهما : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=24895فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين } .
والرواية الثانية : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=24893فمن قتل فهو مخير } .
وفي الحرف الثاني ست روايات : الأولى : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10796إما أن يعقل وإما أن يقاد } .
الثانية : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=6917أن يعقل أو يقاد } .
الثالثة : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10796إما أن يفدي وإما أن يقتل } .
الرابعة : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10796إما أن يعطي الدية أو يقاد أهل القتيل } .
الخامسة : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10796إما أن يعفو أو يقتل } .
السادسة : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10796إما أن يقتل أو يقاد } .
وإذا نزلت الرواية الأخرى على الأولى جاء منها اثنا عشر تنزيلا :
[ ص: 99 ] الأول : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=24895فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ; إما أن يعقل أو يقاد } ، ويكون معناه : إما أن يأخذ الدية ، وإما أن يتفق مع صاحبه على مفاداة معلومة .
التنزيل الثاني : في قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=44034يعقل أو يقاد } ، ويكون معناه : إما أن يأخذ الدية أو يأخذ القود .
التنزيل الثالث : في قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=44082يفدي أو يقتل مثله } .
التنزيل الرابع : في قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10796إما أن يعطي الدية أو يقاد أهل القتيل } ، يكون معناه إما أن يعطي الدية له أو يقاد : يمكن من القود ، وكذا أهل القتيل ; لأنه الحقيقة ، وما تقدم من العبارة عنه إنما كان مجازا في الإخبار به عن وليه .
التنزيل الخامس : في قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10796إما أن يعفو أو يقتل } ، وهي رواية
الترمذي ، وهي صحيحة متقنة مضبوطة مفهومة جلية ، وتكون العبارة عنه بأنه يفعل ذلك إن كان جريحا حقيقة ، أو يعبر عن وليه به مجازا ; لأنه سلطان الأمر .
قال الله سبحانه : {
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } .
التنزيل السادس : في قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=44110يقتل أو يقاد } ، تقديره إما أن يقاد به القاتل برضاه أو يقتل ، وكذلك تتنزل التقديرات الستة على الرواية الثانية بإسقاط قوله : له قتيل ، ويكون قوله : من قتل عبارة عن فعله في حال جرحه قبل موته ، أو يعبر عن وليه به ، فهذا وجه الادكار من الأثر بالنظر .
وأما طريق المعنى والنظر ، فإن الولي أو القاتل إذا وقع العفو منهما بالدية ، فإنه واجب على القاتل قبوله دون اعتبار رضا القاتل ; لأنه عرض عليه بقاء نفسه بثمن مثله ، كما لو عرض عليه بقاء نفسه في المخمصة بقيمة الطعام للزمه ، يؤكده أنه يلزمه إبقاء نفسه بمال الغير إذا وجده في المخمصة فأولى أن يلزمه إبقاء نفسه بماله .