المسألة الثالثة : في تحقيق ذلك : لو ثبت أن هذه الآية نزلت في شأن
عكل أو
عرينة لكان غرضا ثابتا ، ونصا صريحا . واختار
الطبري أنها نزلت في
يهود ، ودخل تحتها كل ذمي وملي . وهذا ما لم يصح ، فإنه لم يبلغنا أن أحدا من
اليهود حارب ، ولا أنه جوزي بهذا الجزاء .
[ ص: 93 ]
ومن قال : إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب ; لأن
عكلا وعرينة ارتدوا وقتلوا وأفسدوا ، ولكن يبعد ; لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة ، كما يسقط قبلها ، وقد قيل للكفار : {
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } . وقال في المحاربين : {
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } .
وكذلك
المرتد يقتل بالردة دون المحاربة ، وفي الآية النفي لمن لم يتب قبل القدرة ، والمرتد لا ينفى ، وفيها قطع اليد والرجل ، والمرتد لا تقطع له يد ولا رجل ; فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون . فإن قيل : وكيف يصح أن يقال : إنها في شأن
العرنيين أقوى ; ولا يمكن أن يحكم فيهم بحكم
العرنيين من سمل الأعين ، وقطع الأيدي . قلنا : ذلك ممكن ; لأن الحربي إذا قطع الأيدي وسمل الأعين فعل به مثل ذلك إذا تعين فاعل ذلك . فإن قيل : لم يكن هؤلاء حربيين ، وإنما كانوا مرتدين ; والمرتد يلزم استتابته ، وعند إصراره على الكفر يقتل . قلنا : فيه روايتان : إحداهما : أنه يستتاب ، والأخرى : لا يستتاب .
وقد اختلف العلماء على القولين ، فقيل : لا يستتاب ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل هؤلاء ولم يستتبهم . وقيل : يستتاب المرتد ، وهو مشهور المذهب ، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم استتابة هؤلاء لما أحدثوا من القتل والمثلة والحرب ; وإنما يستتاب
المرتد الذي يرتاب فيستريب به ويرشد ، ويبين له المشكل ، وتجلى له الشبهة .
فإن قيل : فكيف يقال إن هذه الآية تناولت المسلمين ، وقد قال : {
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } ; وتلك صفة الكفار ؟
[ ص: 94 ] قلنا :
الحرابة تكون بالاعتقاد الفاسد ، وقد تكون بالمعصية ، فيجازى بمثلها ، وقد قال تعالى : {
فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } . فإن قيل : ذلك فيمن يستحل الربا قلنا : نعم ، وفيمن فعله ، فقد اتفقت الأمة على أن من يفعل المعصية يحارب ، كما لو
اتفق أهل بلد على العمل بالربا ، وعلى ترك الجمعة والجماعة .