قوله : ( كتاب الوصايا ) قال في الفتح : الوصايا جمع وصية كالهدايا ، وتطلق على فعل الموصي ، وعلى ما يوصى به من مال أو غيره من عهد ونحوه فتكون بمعنى المصدر وهو الإيصاء ، وتكون بمعنى المفعول وهو الاسم . وهي في الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت . قال الأزهري : الوصية من وصيت الشيء بالتخفيف أصيه إذا وصلته وسميت وصية لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته ، ويقال : وصية بالتشديد ووصاة بالتخفيف بغير همز . وتطلق شرعا أيضا على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات قوله : ( ما حق ) ما نافية بمعنى ليس ، والخبر ما بعد إلا .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي عن سفيان بلفظ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=34328ما حق امرئ يؤمن بالوصية } الحديث أي يؤمن بأنها حق ، كما حكاه nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر عن nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة ورواه nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر nindex.php?page=showalam&ids=14695والطحاوي بلفظ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=31428لا يحل لامرئ مسلم له مال } وقال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : معنى الحديث : ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده ، وكذا قال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي قوله : ( مسلم ) قال في الفتح : هذا الوصف خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ، أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة إلى الامتثال لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك ووصية الكافر جائزة في الجملة ، وحكى nindex.php?page=showalam&ids=12918ابن المنذر فيه الإجماع قوله : ( يبيت ) صفة لمسلم كما جزم به الطيبي قوله : ( ليلتين ) في رواية nindex.php?page=showalam&ids=13933للبيهقي وأبي عوانة ليلة أو ليلتين nindex.php?page=showalam&ids=17080ولمسلم nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ثلاث ليال قال الحافظ : وكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها ففسح له هذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه .
واختلاف الروايات فيه دال على أنه للتقريب لا للتحديد ، والمعنى [ ص: 42 ] لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة ، وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير ، وكأن الثلاث غاية التأخير ; ولذلك قال nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر : لم أبت ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي ، قال الطيبي : في تخصيص الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة : أي لا ينبغي أن يبيت زمنا ما وقد سامحناه في الليلتين والثلاث فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك قال العلماء : لا يندب أن يكتب جميع الأشياء المحقرة ، ولا ما جرت العادة بالخروج منه والوفاء به عن قرب وقد استدل بهذا الحديث مع قوله تعالى { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } الآية على وجوب الوصية ، وبه قال جماعة من السلف منهم nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء والزهري وأبو مجلز وطلحة بن مصرف في آخرين ، وحكاه nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي عن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في القديم ، وبه قال إسحاق nindex.php?page=showalam&ids=15858وداود وأبو عوانة الإسفراييني nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير .
قال في الفتح : وآخرون وذهب الجمهور إلى أنها مندوبة وليست بواجبة ونسب nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر القول بعدم الوجوب إلى الإجماع وهي مجازفة لما عرفت وأجاب الجمهور عن الآية بأنها منسوخة كما في nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : " كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل لكل واحد من الأبوين السدس " وأجاب القائلون بالوجوب بأن الذي نسخ الوصية للوالدين والأقارب الذين يرثون وأما من لا يرث فليس في الآية ولا في تفسير nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ما يقتضي النسخ في حقه وأجاب من قال بعدم الوجوب عن الحديث بأن قوله : " ما حق . . . إلخ " للجزم والاحتياط ، لأنه قد يفجؤه الموت وهو على غير وصية .
وقيل : الحق لغة : الشيء الثابت ، ويطلق شرعا على ما يثبت به الحكم ، وهو أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا . وقد يطلق على المباح قليلا ، قاله nindex.php?page=showalam&ids=14979القرطبي وأيضا تفويض الأمر إلى إرادة الموصي يدل على عدم الوجوب ولكنه يبقى الإشكال في الرواية المتقدمة بلفظ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=31428لا يحل لامرئ مسلم } وقد قيل : إنه يحتمل أن راويها ذكرها بالمعنى وأراد بنفي الحل ثبوت الجواز بالمعنى الأعم الذي يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح وقد اختلف القائلون بالوجوب ، فقال أكثرهم : تجب الوصية في الجملة ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة nindex.php?page=showalam&ids=11867وجابر بن زيد في آخرين : تجب للقرابة الذين لا يرثون خاصة وقال nindex.php?page=showalam&ids=11956أبو ثور : وجوب الوصية في الآية .
والحديث يختص بمن عليه حق شرعي يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به كالوديعة والدين ونحوهما قال : ويدل على ذلك تقييده بقوله : " له شيء يريد أن يوصي فيه " قال في الفتح : وحاصله يرجع إلى قول الجمهور : إن الوصية غير واجبة بعينها ، وإنما الواجب بعينه الخروج من الحقوق الواجبة للغير سواء كان بتنجيز أو وصية ومحل الوصية إنما هو إذا كان عاجزا عن تنجيزه ولم يعلم بذلك غيره ممن يثبت الحق بشهادته .
فأما إذا كان قادرا أو علم [ ص: 43 ] بها غيره فلا وجوب قال : وعرف من مجموع ما ذكرنا أن الوصية قد تكون واجبة .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي وابن سعد عن nindex.php?page=showalam&ids=9أنس : { nindex.php?page=hadith&LINKID=14508كانت غاية وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت : الصلاة وما ملكت أيمانكم } وله شاهد من حديث علي عند أبي داود nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ومن حديث nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة عند nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي بسند جيد والأحاديث في هذا الباب كثيرة أورد منها صاحب الفتح في كتاب الوصايا شطرا صالحا .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14979القرطبي : كانت الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة nindex.php?page=showalam&ids=8لعلي ، فرد ذلك جماعة من الصحابة ، وكذا من بعدهم فمن ذلك ما استدلت به nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ، يعني الحديث المتقدم ومن ذلك أن nindex.php?page=showalam&ids=8عليا لم يدع ذلك لنفسه ولا بعد أن ولي الخلافة ولا ذكره لأحد من الصحابة يوم السقيفة ، وهؤلاء ينتقصون nindex.php?page=showalam&ids=8عليا من حيث قصدوا تعظيمه ، لأنهم نسبوه مع شجاعته العظمى وصلابته إلى المداهنة والتقيد والإعراض عن طلب حقه مع قدرته على ذلك ا هـ .
[ ص: 44 ] ولا يخفى أن نفي nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة للوصية حال الموت لا يستلزم نفيها في جميع الأوقات ، فإذا أقام البرهان الصحيح من يدعي الوصاية في شيء معين قبل .
قوله : ( مكتوبة عند رأسه ) استدل بهذا على جواز الاعتماد على الكتابة والخط ولو لم يقترن ذلك بالشهادة ، وخص nindex.php?page=showalam&ids=17032محمد بن نصر من الشافعية ذلك بالوصية لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الأحكام قال الحافظ : وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذكرت لما فيها من ضبط المشهود به ، قالوا : ومعنى قوله : " وصيته مكتوبة عنده " أي بشرطها وقال المحب الطبري : إضمار الإشهاد فيه بعد وأجيب بأنهم استدلوا على اشتراط الإشهاد بأمر خارج كقوله تعالى : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية } فإنه يدل على اعتبار الإشهاد في الوصية .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14979القرطبي : ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التوثق وإلا فالوصية المشهود بها متفق عليها ولو لم تكن مكتوبة ا هـ وقد استوفينا الأدلة على جواز العمل بالخط في الاعتراضات التي كتبناها على رسالة الجلال في الهلال فليراجع ذلك فإنه مفيد
قوله : ( أي الصدقة أفضل أو أعظم ) في رواية nindex.php?page=showalam&ids=12070للبخاري " أفضل " وفي أخرى له " أعظم " قوله : ( لتفتأن ) بفتح اللام وضم الفوقية وسكون الفاء وبعدها فوقية أيضا ثم همزة مفتوحة ثم نون مشددة وهو من الفتيا ، وفي نسخة " لتنبأن " بضم التاء وفتح النون بعدها باء موحدة ثم همزة مفتوحة ثم نون مشددة من النبأ قوله : ( أن تصدق ) بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين وأصله أن تتصدق والتشديد على الإدغام
قوله : ( شحيح ) قال صاحب المنتهى : الشح : بخل مع حرص . وقال صاحب المحكم : الشح مثلث الشين والضم أولى . وقال صاحب الجامع : كأن الفتح في المصدر والضم في الاسم قال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي : فيه أن المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه ، وأن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه سمة البخل ، فلذلك شرط صحة البدن في الشح بالمال لأنه في الحالتين يجد للمال وقعا في قلبه لما يأمله من البقاء فيحذر معه الفقر قال ابن بطال وغيره : لما كان الشح غالبا في الصحة فالسماح فيه بالصدقة أصدق في النية وأعظم للأجر [ ص: 45 ] بخلاف من يئس من الحياة ورأى مصير المال لغيره
قوله : ( وتأمل ) بضم الميم : أي تطمع قوله : ( ولا تمهل ) بالإسكان على أنه نهي وبالرفع على أنه نفي ويجوز النصب قوله : { حتى إذا بلغت الحلقوم } أي قاربت بلوغه ، إذ لو بلغته حقيقة لم يصح شيء من تصرفاته ، والحلقوم : مجرى النفس ، قاله أبو عبيدة قوله : ( قلت لفلان كذا . . . إلخ ) قال في الفتح : الظاهر أن هذا المذكور على سبيل المثال وقال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي : فلان الأول والثاني الموصى له وفلان الأخير الوارث ، لأنه إن شاء أبطله وإن شاء أجازه ، وقال غيره : يحتمل أن يكون المراد بالجميع من يوصى له ، وإنما أدخل كان في الثالث إشارة إلى تقدير القدر له بذلك
وفيه وعيد شديد وزجر بليغ وتهديد ، لأن مجرد المضارة في الوصية إذا كانت من موجبات النار بعد العبادة الطويلة في السنين المتعددة فلا شك أنها من أشد الذنوب التي لا يقع في مضيقها إلا من سبقت له الشقاوة ، وقراءة nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة للآية لتأييد معنى الحديث وتقويته ، لأن الله سبحانه قد قيد ما شرعه من الوصية بعدم الضرار ، فتكون الوصية المشتملة على الضرار مخالفة لما شرعه الله تعالى وما كان كذلك فهو معصية
وقد تقدم قريبا عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس مرفوعا وموقوفا بإسناد صحيح أن وصية الضرار من الكبائر ، وذلك مما يؤيد معنى الحديث ، فما أحق وصية الضرار بالإبطال من غير فرق بين الثلث وما دونه وما فوقه وقد جمعت في ذلك رسالة مشتملة على فوائد لا يستغنى عنها