وأما المستحب من جميع العبادات المالية والبدنية فينقلب بالنذر واجبا ويتقيد بما قيد به الناذر ، والخبر صريح في الأمر بالوفاء بالنذر إذا كان في طاعة ، وفي النهي عن الوفاء به إذا كان في معصية ، وهل تجب في الثاني كفارة يمين أو لا ؟ فيه خلاف يأتي إن شاء الله قوله : ( إنه لا يرد شيئا ) فيه إشارة إلى تعليل النهي عن النذر . وقد اختلف العلماء في هذا النهي ، فمنهم من حمله على ظاهره ، ومنهم من تأوله . قالnindex.php?page=showalam&ids=12569ابن الأثير في النهاية : تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه . ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به ، إذ يصير بالنهي معصية فلا يلزم ، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك الأمر لا يجر إليهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضررا ولا يغير قضاء ، فقال : لا تنذروا [ ص: 277 ] على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدر الله لكم أو تصرفون به عنكم ما قدره عليكم ، فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء ، فإن الذي نذرتموه لازم لكم انتهى . وقال nindex.php?page=showalam&ids=12074أبو عبيد : النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما ، ولو كان كذلك ما أمر الله تعالى أن يوفى به ، ولا حمد فاعله ، ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يستهان بشأنه فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به . ثم استدل على الحث على الوفاء به من الكتاب والسنة ، وإلى ذلك أشار المازري بقوله : ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر . قال : وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث . ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار ، ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم يبذل القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب . قال : ويشير إلى هذا التأويل قوله : " إنه لا يأتي بخير " وقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=12648إنه لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له } وهذا كالنص على هذا التعليل انتهى
والاحتمال الأول يعم أنواع النذر ، والثاني يخص نوع المجازاة ، وزاد nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض فقال : إن الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة
قال : ومحصل مذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867الإمام مالك أنه مباح إلا إذا كان مؤبدا لتكرره عليه في أوقات ، فقد يثقل عليه فعله فيفعله بالتكلف من غير طيبة نفس وخالص نية قوله : ( إنه لا يرد شيئا ) يعني مما يكرهه الناذر وأوقع النذر استدفاعا له ، وأعم من هذه الرواية ما في nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وغيره بلفظ " إنه لا يأتي بخير " فإنه قد ينظر استجلابا لنفع أو استدعاء لضرر ، والنذر لا يأتي بذلك المطلوب وهو الخير الكائن في النفع أو الخير الكائن في اندفاع الضرر
قال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي في الإعلام : هذا باب من العلم غريب وهو أن ينهى عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبا . وقد ذهب أكثر الشافعية ونقل عن نص nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أن النذر مكروه ، وكذا عن المالكية ، وجزم الحنابلة بالكراهة . وقال النووي : إنه مستحب صرح بذلك في شرح المهذب .
وروي ذلك عن nindex.php?page=showalam&ids=14958القاضي حسين والمتولي والغزالي
وجزم nindex.php?page=showalam&ids=14979القرطبي في المفهم بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال : هذا النهي محله أن يقول مثلا : إن شفى الله مريضي فعلي صدقة . ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكورة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى بما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعاوضة
ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه ولم يتصدق بما علقه على شفائه وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبا ، وهذا [ ص: 278 ] المعنى هو المشار إليه بقوله : " وإنما يستخرج به من البخيل " قال : وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض أو أن الله تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر وإليهما الإشارة في الحديث بقوله : " فإنه لا يرد شيئا " والحالة الأولى تقارب الكفر ، والثانية خطأ صريح
قال الحافظ : بل تقرب من الكفر ، ثم نقل nindex.php?page=showalam&ids=14979القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة . قال : والذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرما ، والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك
قال الحافظ : وهو تفصيل حسن ، ويؤيده قصة nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر فإنها في نذر المجازاة وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة في قوله تعالى: { يوفون بالنذر } قال : كانوا ينذرون طاعة الله تعالى من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم ، فسماهم الله تعالى أبرارا ، وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة ، وقد يشعر التعبير بالبخيل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة
قال الحافظ : والاتفاق الذي ذكره nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلق نظر
قلت : لا نظر إذا لم يصحبه اعتقاد فاسد لأن إخراج المال في القرب طاعة ، والبخيل يحرص على المال فلا يخرجه إلا في نحو نذر المجازاة ولا تتيسر طاعته المالية إلا بمثل ذلك ، أو ما لا بد له منه كالزكاة والفطرة ، فلو لم يلزمه الوفاء لاستمر على بخله ولم يتم الاستخراج المذكور .