قال الترمذي بعد إخراج هذا الحديث : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه . وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى . وأخرجه أيضا nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان وصححه قوله : ( أوصيكم بأصحابي ) قد وقع الاختلاف فيمن يستحق إطلاق اسم الصحابي عليه وهو مبسوط في مواطنه من علم الاصطلاح قوله : ( الجابية ) بالجيم . قال في القاموس : هو حوض ضخم ، والجماعة ، وقرية بدمشق . وباب الجابية من أبوابها انتهى . والمراد هنا القرية قوله : ( ثم يفشو الكذب ) رتب صلى الله عليه وسلم فشو الكذب على انقراض الثالث . فالقرن الذي بعده ثم من بعده إلى القيامة قد فشا فيهم الكذب بهذا النص
فعلى المتيقظ من حاكم أو عالم أن يبالغ في تعرف أحوال الشهادة والمخبرين ، وأن لا يجعل الأصل في ذلك الصدق لأن كل شهادة وكل خبر قد دخله الاحتمال ومع دخول الاحتمال يمتنع القبول إلا بعد معرفة صدق المخبر والشاهد بأي دليل . وأقل الأحوال أنه ليس ممن يتجارأ على الكذب ويجازف في أقواله . ومن هذه الحيثية لم يقبل المجهول عند علماء المنقول ; لأن العدالة ملكة ، والملكات مسبوقة بالعدم فمن لا تعرف عدالته لا تقبل روايته ، لأن الفسق مانع فلا بد من تحقق عدمه . وكذلك الكذب مانع فلا بد من تحقق عدمه كما تقرر في الأصول .
وفي الحديث التوصية بخير القرون وهم الصحابة ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم . وقد وعدنا أن نذكر ههنا طرفا من الكلام على ما ورد من معارضة الأحاديث القاضية بأفضلية الصحابة فنقول : قد تقدم في باب من أعلم صاحب الحق [ ص: 359 ] بشهادة له عنده وذم من أدى شهادة من غير مسألة حديث nindex.php?page=showalam&ids=40عمران بن حصين . وحديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة " أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم "
وفي ذلك دليل على أنهم الخيار من هذه الأمة وأنه لا أكثر خيرا منهم . وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك باعتبار كل فرد فرد . وقال nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : إن التفضيل إنما هو بالنسبة إلى مجموع الصحابة فإنهم أفضل ممن بعدهم لا كل فرد منهم .
ويشكل عليه أيضا حديث ثعلبة المذكور فإنه قال { nindex.php?page=hadith&LINKID=32972 : للعامل فيهن أجر خمسين رجلا } ثم بين أن الخمسين من الصحابة ، وهذا صريح في أن التفضيل باعتبار الأعمال ، فاقتضى الأول أفضلية الصحابة في الأعمال إلى حد يفضل نصف مدهم مثل أحد ذهبا ، واقتضى الثاني تفضيل من بعدهم إلى حد يكون أجر العامل أجر خمسين رجلا من الصحابة .
وقال النووي في حديث " أمتي كالمطر " أن يشتبه على الذين يرون عيسى ويدركون زمانه وما فيه من الخير : أي الزمانين أفضل . قال : وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم : { nindex.php?page=hadith&LINKID=18601خير القرون قرني } ولا يخفى ما في هذا من التعسف الظاهر . والذي أوقعه فيه عدم ذكر فاعل يدري فحمله على هذا وغفل عن التشبيه بالمطر المفيد لوقوع التردد في الخيرية من كل أحد . والذي يستفاد من مجموع الأحاديث أن للصحابة مزية لا يشاركهم فيها من بعدهم وهي صحبته صلى الله عليه وسلم ومشاهدته والجهاد بين يديه وإنفاذ أوامره ونواهيه ، ولمن بعدهم مزية لا يشاركهم الصحابة فيها وهي إيمانهم بالغيب في زمان لا يرون فيه الذات الشريفة التي جمعت من المحاسن ما يقود بزمام كل مشاهد إلى الإيمان إلا من حقت عليه الشقاوة
وأما باعتبار الأعمال فأعمال الصحابة فاضلة مطلقا من غير تقييد بحالة مخصوصة كما يدل عليه { nindex.php?page=hadith&LINKID=33588لو أنفق أحدكم مثل أحد } الحديث إلا أن هذه المزية هي للسابقين منهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بهذه المقالة جماعة من الصحابة الذين تأخر إسلامهم كما يشعر بذلك السبب ، وفيه قصة مذكورة في كتب الحديث ، فالذين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=33588لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا } هم جماعة من الصحابة الذين تأخرت صحبتهم ، فكان بين منزلة أول الصحابة وآخرهم أن إنفاق مثل أحد ذهبا من متأخريهم لا يبلغ مثل إنفاق نصف مد من متقدميهم .
وأما أعمال من بعد الصحابة فلم يرد ما يدل على كونها أفضل على الإطلاق ، إنما ورد ذلك مقيدا بأيام الفتنة وغربة الدين حتى كان أجر الواحد يعدل أجر خمسين رجلا من الصحابة فيكون هذا مخصصا لعموم ما ورد في أعمال الصحابة ، فأعمال الصحابة فاضلة وأعمال من بعدهم مفضولة إلا في مثل تلك الحالة ، ومثل حالة من أدرك المسيح إن صح ذلك المرسل ، وبانضمام أفضلية الأعمال إلى مزية الصحبة يكونون خير القرون ويكون قوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=31573لا يدرى خير أوله أم آخره } باعتبار أن في المتأخرين من يكون بتلك المثابة من كون أجر خمسين هذا باعتبار أجور الأعمال ، وأما باعتبار غيرها فلكل طائفة مزية كما تقدم ذكره ، لكن مزية الصحابة فاضلة مطلقا باعتبار مجموع القرن لحديث { nindex.php?page=hadith&LINKID=18601خير القرون قرني } فإذا اعتبرت كل قرن قرنا ووازنت بين مجموع القرن الأول مثلا ثم الثاني ثم كذلك إلى انقراض العالم ، فالصحابة خير القرون ، ولا ينافي هذا تفضيل الواحد من أهل قرن أو الجماعة على الواحد أو الجماعة من أهل قرن آخر
فإن قلت : ظاهر الحديث المتقدم أن أبا عبيدة قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=43415يا رسول الله أحد خير منا ، أسلمنا معك وجاهدنا معك ؟ فقال : قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولا يروني } [ ص: 361 ] يقتضي تفضيل مجموع قرن هؤلاء على مجموع قرن الصحابة . قلت : ليس في هذا الحديث ما يفيد تفضيل المجموع على المجموع وإن سلم ذلك وجب المصير إلى الترجيح لتعذر الجمع ، ولا شك أن حديث " خير القرون قرني " أرجح من هذا الحديث بمسافات لو لم يكن إلا كونه في الصحيح ، وكونه ثابتا من طرق ، وكونه متلقى بالقبول ، فظهر بهذا وجه الفرق بين المزيتين من غير نظر إلى الأعمال ، كما ظهر وجه الجمع باعتبار الأعمال على ما تقدم تقريره فلم يبق ههنا إشكال والله أعلم
قوله : ( بحبوحة الجنة ) قال في النهاية : بحبوحة الدار وسطها ، يقال بحبح : إذا تمكن وتوسط المنزل والمقام والبحبوحة بمهملتين وموحدتين ، والمراد أن لزوم الجماعة سبب الكون في بحبوحة الجنة لأن يد الله مع الجماعة ، ومن شذ شذ إلى النار كما ثبت في الحديث
قوله : ( من سرته حسنته . . . إلخ ) فيه دليل على أن السرور لأجل الحسنة والحزن لأجل السيئة من خصال الإيمان ; لأن من ليس من أهل الإيمان لا يبالي أحسن أم أساء ، وأما من كان صحيح الإيمان خالص الدين فإنه لا يزال من سيئته في غم لعلمه بأنه مأخوذ بها محاسب عليها ، ولا يزال من حسنته في سرور لأنه يعلم أنها مدخرة له في صحائفه فلا يزال حريصا على ذلك حتى يوفقه الله عز وجل لحسن الخاتمة