صفحة جزء
باب الرد على من قال إذا خرج نهارا لم يقصر إلى الليل

1162 - ( عن أنس قال : { صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا ، وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين } متفق عليه ) .

[ ص: 245 ] وعن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت أنسا عن قصر الصلاة فقال : { كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال ، أو ثلاثة فراسخ ، صلى ركعتين } - شعبة الشاك - رواه أحمد ومسلم وأبو داود ) .


قوله : ( وصليت معه العصر بذي الحليفة ) هكذا في رواية للبخاري ذكرها الكشميهني وهي ثابتة عند مسلم وعند البخاري أيضا في كتاب الحج . وقد استدل بذلك على إباحة القصر في السفر القصير ، لأن بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال . وتعقب بأن ذا الحليفة لم تكن منتهى السفر ، وإنما خرج إليها حيث كان قاصدا إلى مكة واتفق نزوله بها وكانت أول صلاة حضرت صلاة العصر فقصرها واستمر يقصر إلى أن رجع .

قوله : ( إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال ) اختلف في تقدير الميل ، فقال في الفتح : الميل هو من الأرض منتهى مد البصر ، لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه ، وبذلك جزم الجوهري . وقيل : أن ينظر إلى الشخص في أرض مستوية فلا يدري أرجل هو أم امرأة أو ذاهب أو آت ؟ . قال النووي : الميل ستة آلاف ذراع ، والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة معتدلة ، والأصبع ست شعيرات معترضة معتدلة . قالالحافظ : وهذا الذي قال هو الأشهر . ومنهم من عبر عن ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان . وقيل : هو أربعة آلاف ذراع . وقيل : ثلاثة آلاف ذراع نقله صاحب البيان . وقيل : خمسمائة وصححه ابن عبد البر . وقيل : ألفا ذراع . ومنهم من عبر عن ذلك بألف خطوة للجمل . قال : ثم إن الذراع الذي ذكر النووي تحريره قد حرره غيره بذراع الحديد المشهور في مصر والحجاز في هذه الأعصار ، فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن ، فعلى هذا فالميل بذراع الحديد في القول المشهور خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا . قوله : ( أو ثلاثة فراسخ ) الفرسخ في الأصل : السكون ، ذكره ابن سيده . وقيل : السعة . وقيل : الشيء الطويل . وذكر الفراء أن الفرسخ فارسي معرب ، وهو ثلاثة أميال . واعلم أنه قد وقع الخلاف الطويل بين علماء الإسلام في مقدار المسافة التي يقصر فيها الصلاة . قال في الفتح : فحكى ابن المنذر وغيره فيها نحوا من عشرين قولا ، أقل ما قيل في ذلك : يوم وليلة ، وأكثره : ما دام غائبا عن بلده .

وقيل : أقل ما قيل في ذلك الميل كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر . وإلى ذلك ذهب ابن حزم الظاهري ، واحتج له بإطلاق السفر في كتاب الله تعالى كقوله : { وإذا ضربتم في الأرض } الآية ، [ ص: 246 ] وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فلم يخص الله ولا رسوله ولا المسلمون بأجمعهم سفرا من سفر .

ثم احتج على ترك القصر فيما دون الميل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصر ولا أفطر . وذكر في المحلى من أقوال الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء في تقدير مسافة القصر أقوالا كثيرة ولم يحط بها غيره واستدل لها ورد تلك الاستدلالات . وقد أخذ بظاهر حديث أنس المذكور في الباب الظاهرية كما قال النووي . فذهبوا إلى أن أقل مسافة القصر ثلاثة أميال .

قال في الفتح : وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه ، وقد حمله من خالفه على أن المراد المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر . قال : ولا يخفى بعد هذا الحمل مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال : سألت أنسا عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع ، فقال أنس ، فذكر الحديث .

قال : فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدئ القصر منه . وذهب الشافعي ومالك وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم إلى أنه لا يجوز إلا في مسيرة مرحلتين وهما ثمانية وأربعون ميلا هاشمية كما قال النووي . وقال أبو حنيفة والكوفيون : لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل

وروي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة . وفي البحر عن أبي حنيفة أن مسافة القصر أربعة وعشرون فرسخا . وحكى في البحر أيضا عن زيد بن علي والنفس الزكية والداعي والمؤيد بالله وأبي طالب والثوري والكرخي وإحدى الروايات عن أبي حنيفة أن مسافة القصر ثلاثة أيام بسير الإبل والأقدام .

وذهب الباقر والصادق وأحمد بن عيسى والقاسم والهادي إلى أن مسافته بريد فصاعدا . وقال أنس وهو مروي عن الأوزاعي : إن مسافته يوم وليلة . قال في الفتح : وقد أورد البخاري ما يدل على أن اختياره أن أقل مسافة القصر يوم وليلة يعني قوله في صحيحه : وسمى النبي صلى الله عليه وسلم السفر يوما وليلة بعد قوله : باب في كم يقصر الصلاة .

وحجج هذه الأقوال مأخوذ بعضها من قصره صلى الله عليه وسلم في أسفاره ، وبعضها من قوله صلى الله عليه وسلم : { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم } عند الجماعة إلا النسائي . وفي رواية للبخاري من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم : { لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم } وفي رواية لأبي داود { لا تسافر المرأة بريدا } ولا حجة في جميع ذلك ، أما قصره صلى الله عليه وسلم في أسفاره فلعدم استلزام فعله لعدم الجواز فيما دون المسافة التي قصر فيها .

وأما نهي المرأة عن أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم فغاية ما فيه إطلاق اسم السفر على مسيرة ثلاثة أيام وهو غير مناف للقصر فيما دونها ، وكذلك نهيها عن سفر اليوم بدون محرم ، والبريد لا ينافي [ ص: 247 ] جواز القصر في ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ كما في حديث أنس ، لأن الحكم على الأقل حكم على الأكثر وأما حديث ابن عباس عند الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال { : يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان } فليس مما تقوم به حجة ، لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر وهو متروك ، وقد نسبه النووي إلى الكذب وقال الأزدي : لا تحل الرواية عنه ، والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في الحجازيين وعبد الوهاب المذكور حجازي ، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس كما أخرجه عنه الشافعي بإسناد صحيح ومالك في الموطأ .

إذا تقرر لك هذا فالمتيقن هو ثلاثة فراسخ ، لأن حديث أنس المذكور في الباب متردد ما بينها وبين ثلاثة أميال ، والثلاثة الأميال مندرجة في الثلاثة الفراسخ ، فيؤخذ بالأكثر احتياطا ، ولكنه روى سعيد بن منصور عن أبي سعيد قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة } وقد أورد الحافظ هذا في التلخيص ولم يتكلم عليه ، فإن صح كان الفرسخ هو المتيقن ولا يقصر فيما دونه إلا إذا كان يسمى سفرا لغة أو شرعا . وقد اختلف أيضا فيمن قصد سفرا يقصر في مثله الصلاة على اختلاف الأقوال من أين يقصر ، فقال ابن المنذر : أجمعوا على أن لمريد السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي يخرج منها . واختلفوا فيما قبل الخروج من البيوت ، فذهب الجمهور إلى أنه لا بد من مفارقة جميع البيوت ، وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين ولو كان في منزله . ومنهم من قال : إذا ركب قصر إن شاء . ورجح ابن المنذر الأول بأنهم اتفقوا على أنه يقصر إذا فارق البيوت .

واختلفوا فيما قبل ذلك فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أن له القصر . قال : ولا أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في سفر من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة .

التالي السابق


الخدمات العلمية