(
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ( 10 )
وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون ( 11 )
وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ( 12 )
فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 13 ) ) .
يقول تعالى مخبرا عن فؤاد
أم موسى ، حين ذهب ولدها في البحر ، إنه أصبح فارغا ، أي : من كل شيء من أمور الدنيا إلا من
موسى . قاله
ابن عباس ،
ومجاهد ،
وعكرمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ،
وأبو عبيدة ،
والضحاك ،
والحسن البصري ،
وقتادة ، وغيرهم .
(
إن كادت لتبدي به ) أي : إن كادت من شدة وجدها وحزنها وأسفها لتظهر أنه ذهب لها ولد ، وتخبر بحالها ، لولا أن الله ثبتها وصبرها ، قال الله تعالى : (
لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين . وقالت لأخته قصيه ) أي : أمرت ابنتها - وكانت كبيرة تعي ما يقال لها - فقالت لها : (
قصيه ) أي : اتبعي أثره ، وخذي خبره ، وتطلبي شأنه من نواحي البلد . فخرجت لذلك ، (
فبصرت به عن جنب ) ، قال
ابن عباس : عن جانب .
وقال
مجاهد : (
فبصرت به عن جنب ) : عن بعيد .
وقال
قتادة : جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده .
وذلك أنه لما استقر
موسى ، عليه السلام ، بدار
فرعون ، وأحبته امرأة الملك ، واستطلقته منه ، عرضوا عليه المراضع التي في دارهم ، فلم يقبل منها ثديا ، وأبى أن يقبل شيئا من ذلك . فخرجوا به إلى سوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته ، فلما رأته بأيديهم عرفته ، ولم تظهر ذلك ولم يشعروا بها .
قال الله تعالى : (
وحرمنا عليه المراضع من قبل ) أي : تحريما قدريا ، وذلك لكرامة الله له صانه عن أن يرتضع غير ثدي أمه ; ولأن الله - سبحانه - جعل ذلك سببا إلى رجوعه إلى أمه ، لترضعه وهي آمنة ، بعدما كانت خائفة . فلما رأتهم [ أخته ] حائرين فيمن يرضعه قالت : (
هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه ) لكم وهم له ناصحون .
[ ص: 224 ]
قال
ابن عباس : لما قالت ذلك أخذوها ، وشكوا في أمرها ، وقالوا لها : وما يدريك نصحهم له وشفقتهم عليه ؟ فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظئورة الملك ورجاء منفعته . فأرسلوها ، فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم ، ذهبوا معها إلى منزلهم ، فدخلوا به على أمه ، فأعطته ثديها فالتقمه ، ففرحوا بذلك فرحا شديدا . وذهب البشير إلى امرأة الملك ، فاستدعت
أم موسى ، وأحسنت إليها ، وأعطتها عطاء جزيلا وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة ، ولكن لكونه وافق ثديها . ثم سألتها
آسية أن تقيم عندها فترضعه ، فأبت عليها وقالت : إن لي بعلا وأولادا ، ولا أقدر على المقام عندك . ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت . فأجابتها
امرأة فرعون إلى ذلك ، وأجرت عليها النفقة والصلات والكساوي والإحسان الجزيل . فرجعت
أم موسى بولدها راضية مرضية ، قد أبدلها الله من بعد خوفها أمنا ، في عز وجاه ورزق دار . ولهذا جاء في الحديث :
" مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير ، كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها " ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل : يوم وليلة ، أو نحوه ، والله [ سبحانه ] أعلم ، فسبحان من بيديه الأمر! ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجا ، وبعد كل ضيق مخرجا . ولهذا قال تعالى : (
فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ) أي : به ، (
ولا تحزن ) أي : عليه : (
ولتعلم أن وعد الله حق ) أي : فيما وعدها من رده إليها ، وجعله من المرسلين . فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن منه رسول من المرسلين ، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعا وشرعا .
وقوله : (
ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أي : حكم الله في أفعاله وعواقبها المحمودة ، التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة ، فربما يقع الأمر كريها إلى النفوس ، وعاقبته محمودة في نفس الأمر ، كما قال تعالى : (
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) [ البقرة : 216 ] وقال تعالى : (
فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) [ النساء : 19 ] .