(
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ( 18 )
فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ( 19 ) ) .
يذكر تعالى ما كانوا فيه من الغبطة والنعمة ، والعيش الهني الرغيد ، والبلاد الرخية ، والأماكن الآمنة ، والقرى المتواصلة المتقاربة ، بعضها من بعض ، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها ، بحيث
[ ص: 509 ] إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء ، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا ، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى ، بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم; ولهذا قال تعالى : (
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها ) ، قال وهب بن منبه : هي قرى
بصنعاء . وكذا قال أبو مالك .
وقال
مجاهد ، والحسن ، nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ، nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك عن
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم ، وقتادة ، والضحاك ، nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي ، وابن زيد وغيرهم : يعني : قرى
الشام . يعنون أنهم كانوا يسيرون من
اليمن إلى
الشام في قرى ظاهرة متواصلة .
وقال
العوفي ، عن
ابن عباس : القرى التي باركنا فيها :
بيت المقدس .
وقال
العوفي ، عنه أيضا : هي قرى عربية بين
المدينة والشام .
(
قرى ظاهرة ) أي : بينة واضحة ، يعرفها المسافرون ، يقيلون في واحدة ، ويبيتون في أخرى; ولهذا قال : (
وقدرنا فيها السير ) أي : جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه ، (
سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ) أي : الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلا ونهارا .
(
فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم ) ، وقرأ آخرون : " بعد بين أسفارنا " ، وذلك أنهم بطروا هذه النعمة - كما قاله
ابن عباس ،
ومجاهد ، والحسن ، وغير واحد - وأحبوا مفاوز ومهامه يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحرور والمخاوف ، كما طلب
بنو إسرائيل من
موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ، مع أنهم كانوا في عيش رغيد في من وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة; ولهذا قال لهم : (
أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ) [ البقرة : 61 ] ، وقال تعالى : (
وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ) [ القصص : 58 ] ، وقال تعالى : (
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) [ النحل : 112 ] . وقال في حق هؤلاء : (
وظلموا أنفسهم ) أي : بكفرهم ، (
فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ) أي : جعلناهم حديثا للناس ، وسمرا يتحدثون به من خبرهم ، وكيف مكر الله بهم ، وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا; ولهذا تقول
العرب في القوم إذا تفرقوا : " تفرقوا أيدي سبأ " " وأيادي سبأ " و " تفرقوا شذر مذر " .
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا
أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا
إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، سمعت أبي يقول : سمعت
عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ ، قال : (
لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان [ عن يمين وشمال ] ) إلى قوله : (
فأرسلنا عليهم سيل العرم ) وكانت فيهم
[ ص: 510 ] كهنة ، وكانت الشياطين يسترقون السمع ، فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء ، فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال ، وإنه خبر أن زوال أمرهم قد دنا ، وأن العذاب قد أظلهم . فلم يدر كيف يصنع; لأنه كان له مال كثير من عقار ، فقال لرجل من بنيه - وهو أعزهم أخوالا - : إذا كان غدا وأمرتك بأمر فلا تفعل ، فإذا انتهرتك فانتهرني ، فإذا تناولتك فالطمني . فقال : يا أبت ، لا تفعل ، إن هذا أمر عظيم ، وأمر شديد ، قال : يا بني ، قد حدث أمر لا بد منه . فلم يزل به حتى وافاه على ذلك . فلما أصبحوا واجتمع الناس ، قال : يا بني ، افعل كذا وكذا . فأبى ، فانتهره أبوه ، فأجابه ، فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه ، فوثب على أبيه فلطمه ، فقال : ابني يلطمني ؟ علي بالشفرة . قالوا : وما تصنع بالشفرة ؟ قال : أذبحه . قالوا : تذبح ابنك . الطمه أو اصنع ما بدا لك . قال : فأبى ، قال : فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك ، فجاء أخواله فقالوا : خذ منا ما بدا لك . فأبى إلا أن يذبحه . قالوا : فلتموتن قبل أن تذبحه . قال : فإذا كان الحديث هكذا فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ولدي فيه ، اشتروا مني دوري ، اشتروا مني أرضي ، فلم يزل حتى باع دوره وأراضيه وعقاره ، فلما صار الثمن في يده وأحرزه ، قال : أي قوم ، إن العذاب قد أظلكم ، وزوال أمركم قد دنا ، فمن أراد منكم دارا جديدا ، وجملا شديدا ، وسفرا بعيدا ، فليلحق
بعمان . ومن أراد منكم الخمر والخمير والعصير - وكلمة ، قال
إبراهيم : لم أحفظها - فليلحق
ببصرى ، ومن أراد الراسخات في الوحل ، المطعمات في المحل ، المقيمات في الضحل ، فليلحق
بيثرب ذات نخل . فأطاعه قومه فخرج أهل
عمان إلى
عمان . وخرجت
غسان إلى
بصرى . وخرجت
الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى
يثرب ذات النخل . قال : فأتوا على بطن مر فقال
بنو عثمان : هذا مكان صالح ، لا نبغي به بدلا . فأقاموا به ، فسموا لذلك
خزاعة ، لأنهم انخزعوا من أصحابهم ، واستقامت
الأوس والخزرج حتى نزلوا
المدينة ، وتوجه أهل
عمان إلى
عمان ، وتوجهت
غسان إلى
بصرى .
هذا أثر غريب عجيب ، وهذا الكاهن هو
عمرو بن عامر أحد رؤساء
اليمن وكبراء سبأ وكهانهم .
وقد ذكر
محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر
عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد
اليمن ، بسبب استشعاره بإرسال العرم فقال : وكان سبب خروج
عمرو بن عامر من
اليمن - فيما حدثني
أبو زيد الأنصاري - : أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب ، الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم . فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك ، فاعتزم على النقلة عن
اليمن فكاد قومه ، فأمر أصغر أولاده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه ، ففعل ابنه ما أمره به ، فقال
عمرو : لا أقيم ببلد لطم وجهي فيها أصغر ولدي . وعرض أمواله ، فقال
[ ص: 511 ] أشراف من أشراف
اليمن : اغتنموا غضبة
عمرو . فاشتروا منه أمواله ، وانتقل هو في ولده وولد ولده . وقالت
الأزد : لا نتخلف عن
عمرو بن عامر . فباعوا أموالهم ، وخرجوا معه فساروا حتى نزلوا بلاد
" عك " مجتازين يرتادون البلدان ، فحاربتهم
عك ، وكانت حربهم سجالا . ففي ذلك يقول
عباس بن مرداس السلمي :
وعك بن عدنان الذين تلقبوا بغسان ، حتى طردوا كل مطرد
وهذا البيت من قصيدة له .
قال : ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد ، فنزل آل
جفنة بن عمرو بن عامر الشام ، ونزلت
الأوس والخزرج يثرب ، ونزلت
خزاعة مرا . ونزلت
أزد السراة السراة ، ونزلت
أزد عمان عمان ، ثم أرسل الله على السد السيل فهدمه ، وفي ذلك أنزل الله عز وجل هذه الآيات .
وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قصة
عمرو بن عامر بنحو مما ذكر
محمد بن إسحاق ، إلا أنه قال : " فأمر ابن أخيه " ، مكان " ابنه " ، إلى قوله : " فباع ماله وارتحل بأهله ، فتفرقوا " . رواه
ابن أبي حاتم .
وقال
ابن جرير : حدثنا
ابن حميد ، أخبرنا
[ سلمة ] ، عن
ابن إسحاق قال : يزعمون أن
عمرو بن عامر - وهو عم القوم - كان كاهنا ، فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم . فقال لهم : إني قد علمت أنكم ستمزقون ، فمن كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ، ومزاد جديد - فليلحق
بكاس أو
كرود . قال : فكانت
وادعة بن عمرو . ومن كان منكم ذا هم مدن ، وأمر دعن ، فليلحق بأرض
شن . فكانت
عوف بن عمرو ، وهم الذين يقال لهم : بارق . ومن كان منكم يريد عيشا آنيا ، وحرما آمنا ، فليلحق
بالأرزين . فكانت
خزاعة . ومن كان منكم يريد الراسيات في الوحل ، المطعمات في المحل ، فليلحق
بيثرب ذات النخل . فكانت
الأوس والخزرج ، وهما هذان الحيان من
الأنصار . ومن كان منكم يريد خمرا وخميرا ، وذهبا وحريرا ، وملكا وتأميرا ، فليلحق
بكوثي وبصرى ، فكانت
غسان بنو جفنة ملوك
الشام . ومن كان منهم
بالعراق . قال
ابن إسحاق : وقد سمعت بعض أهل العلم يقول : إنما قالت هذه المقالة طريفة
امرأة عمرو بن عامر ، وكانت كاهنة ، فرأت في كهانتها ذلك ، فالله أعلم أي ذلك كان .
وقال
سعيد ، عن
قتادة ، عن
الشعبي : أما
غسان فلحقوا
بالشام ، وأما
الأنصار فلحقوا
بيثرب ، وأما
خزاعة فلحقوا
بتهامة ، وأما
الأزد فلحقوا
بعمان ، فمزقهم الله كل ممزق . رواه
ابن أبي حاتم nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير .
ثم قال
محمد بن إسحاق : حدثني
أبو عبيدة قال : قال
الأعشى - أعشى بني قيس بن ثعلبة - واسمه :
ميمون بن قيس :
[ ص: 512 ] وفي ذاك للمؤتسي أسوة ومأرب عفى عليها العرم
رخام بنته لهم حمير إذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها على سعة ماؤهم إذ قسم
فصاروا أيادي ما يقدرو ن منه على شرب طفل فطم
وقوله تعالى : (
إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) أي : إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب ، وتبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام - لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب ، شكور على النعم .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : حدثنا
عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني ، قالا أخبرنا
سفيان ، عن
أبي إسحاق ، عن
العيزار بن حريث عن
عمر بن سعد ، عن أبيه - هو
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص ، رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=822670 " عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن ، إن أصابه خير حمد ربه وشكر ، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر ، يؤجر المؤمن في كل شيء ، حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته " .
وقد رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي في " اليوم والليلة " ، من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11813أبي إسحاق السبيعي ، به - وهو حديث
عزيز - من رواية
عمر بن سعد ، عن أبيه . ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=825952 " عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له . وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " .
قال عبد : حدثنا
يونس ، عن
شيبان ، عن
قتادة (
إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) قال : كان
مطرف يقول : نعم العبد الصبار الشكور ، الذي إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر .