[ ص: 150 ] ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ( 51 )
يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ( 52 )
ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب ( 53 )
هدى وذكرى لأولي الألباب ( 54 )
فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار ( 55 )
إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ( 56 ) )
قد أورد
أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله تعالى ، عند قوله تعالى : (
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) سؤالا فقال : قد علم أن
بعض الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، قتله قومه بالكلية
كيحيى وزكريا وشعياء ، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجرا
كإبراهيم ، وإما إلى السماء
كعيسى ، فأين النصرة في الدنيا ؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين .
أحدهما : أن يكون الخبر خرج عاما ، والمراد به البعض ، قال : وهذا سائغ في اللغة .
الثاني : أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم ، وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم ، كما فعل بقتلة
يحيى وزكريا وشعياء ، سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم ، وقد ذكر أن
النمروذ أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وأما
الذين راموا صلب المسيح ، عليه السلام ، من
اليهود ، فسلط الله عليهم
الروم فأهانوهم وأذلوهم ، وأظهرهم الله عليهم . ثم قبل يوم القيامة سينزل
عيسى ابن مريم إماما عادلا وحكما مقسطا ، فيقتل
المسيح الدجال وجنوده من
اليهود ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام . وهذه نصرة عظيمة ، وهذه سنة الله في خلقه في قديم الدهر وحديثه : أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ، ويقر أعينهم ممن آذاهم ، ففي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=822847يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب " وفي الحديث الآخر : "
إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب " ; ولهذا أهلك تعالى
قوم نوح وعاد وثمود ، وأصحاب الرس ،
وقوم لوط ،
وأهل مدين ، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق . وأنجى الله من بينهم المؤمنين ، فلم يهلك منهم أحدا وعذب الكافرين ، فلم يفلت منهم أحدا .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : لم يبعث الله رسولا قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوما من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون ، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله لهم من ينصرهم ، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا . قال : فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا ، وهم منصورون فيها .
[ ص: 151 ]
وهكذا
نصر الله [ سبحانه ] نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على من خالفه وناوأه ، وكذبه وعاداه ، فجعل كلمته هي العليا ، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان . وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى
المدينة النبوية ، وجعل له فيها أنصارا وأعوانا ، ثم منحه أكتاف المشركين يوم
بدر ، فنصره عليهم وخذلهم له ، وقتل صناديدهم ، وأسر سراتهم ، فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ، ثم من عليهم بأخذه الفداء منهم ، ثم بعد مدة قريبة فتح [ عليه ]
مكة ، فقرت عينه ببلده ، وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم ، فأنقذه الله به مما كان فيه من الشرك والكفر ، وفتح له
اليمن ، ودانت له
جزيرة العرب بكمالها ، ودخل الناس في دين الله أفواجا . ثم قبضه الله ، تعالى ، إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة ، فأقام الله أصحابه خلفاء بعده ، فبلغوا عنه دين الله ، ودعوا عباد الله إلى الله . وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب ، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها . ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام الساعة ; ولهذا قال تعالى : (
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) أي : يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل .
قال
مجاهد : الأشهاد : الملائكة .
وقوله : (
يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ) بدل من قوله : (
ويوم يقوم الأشهاد ) .
وقرأ آخرون : " يوم " بالرفع ، كأنه فسره به . (
ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين ) ، وهم المشركون ) معذرتهم ) أي : لا يقبل منهم عذر ولا فدية ، (
ولهم اللعنة ) أي :
الإبعاد والطرد من الرحمة ، (
ولهم سوء الدار ) وهي النار . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، بئس المنزل والمقيل .
وقال
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : (
ولهم سوء الدار ) أي : سوء العاقبة .
وقوله : (
ولقد آتينا موسى الهدى ) وهو
ما بعثه الله به من الهدى والنور ، (
وأورثنا بني إسرائيل الكتاب ) أي : جعلنا لهم العاقبة ، وأورثناهم
بلاد فرعون وأمواله وحواصله وأرضه ، بما صبروا على طاعة الله واتباع رسوله
موسى ، عليه السلام ، وفي الكتاب الذي أورثوه - وهو التوراة - (
هدى وذكرى لأولي الألباب ) وهي : العقول الصحيحة السليمة .
وقوله : ( فاصبر ) أي : يا
محمد ، (
إن وعد الله ) أي : وعدناك أنا سنعلي كلمتك ، ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك ، والله لا يخلف الميعاد . وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك .
وقوله : (
واستغفر لذنبك ) هذا
تهييج للأمة على الاستغفار ، (
وسبح بحمد ربك بالعشي ) أي : في أواخر النهار وأوائل الليل ، ( والإبكار ) وهي أوائل النهار وأواخر الليل .
وقوله : (
إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ) أي : يدفعون الحق بالباطل ، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله ، (
إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه )
[ ص: 152 ] أي : ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق ، واحتقار لمن جاءهم به ، وليس ما يرومونه من إخمال الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم ، بل الحق هو المرفوع ، وقولهم وقصدهم هو الموضوع ، (
فاستعذ بالله ) أي : من حال مثل هؤلاء ، (
إنه هو السميع البصير ) أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان . هذا تفسير
ابن جرير .
وقال
كعب nindex.php?page=showalam&ids=11873وأبو العالية : نزلت هذه الآية في
اليهود : (
إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ) قال
أبو العالية : وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم ، وأنهم يملكون به الأرض . فقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - آمرا له أن يستعيذ من فتنة
الدجال ، ولهذا قال : (
فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ) .
وهذا قول غريب ، وفيه تعسف بعيد ، وإن كان قد رواه
ابن أبي حاتم في كتابه ، والله أعلم .