[ ص: 228 ] (
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ( 36 )
وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ( 37 )
حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ( 38 )
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ( 39 )
أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين ( 40 )
فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون ( 41 )
أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون ( 42 )
فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ( 43 )
وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ( 44 )
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ( 45 ) )
يقول تعالى : (
ومن يعش ) أي : يتعامى ويتغافل ويعرض ، (
عن ذكر الرحمن ) والعشا في العين : ضعف بصرها . والمراد هاهنا عشا البصيرة ، (
نقيض له شيطانا فهو له قرين ) كقوله : (
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) [ النساء : 115 ] ، وكقوله : (
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) [ الصف : 5 ] ، وكقوله : (
وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ) [ فصلت : 25 ] ; ولهذا قال هاهنا : (
وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون . حتى إذا جاءنا ) أي : هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله ، ويهديه إلى صراط الجحيم . فإذا وافى الله يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي وكل به ، (
قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ) [ أي : فبئس القرين كنت لي في الدنيا ] وقرأ بعضهم : " حتى إذا جاءانا " يعني : القرين والمقارن .
قال
عبد الرزاق : أخبرنا
معمر ، عن
سعيد الجريري قال : بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة سفع بيده شيطان فلم يفارقه ، حتى يصيرهما الله تعالى إلى النار ، فذلك حين يقول : (
ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين )
والمراد بالمشرقين هنا هو ما بين المشرق والمغرب . وإنما استعمل هاهنا تغليبا ، كما يقال القمران ، والعمران ، والأبوان ، [ والعسران ] . قاله
ابن جرير وغيره .
[ ولما كان الاشتراك في المصيبة في الدنيا يحصل به تسلية لمن شاركه في مصيبته ، كما قالت
الخنساء تبكي أخاها :
ولولا كثرة الباكين حولي على قتلاهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي
قطع الله بذلك بين أهل النار ، فلا يحصل لهم بذلك تأس وتسلية ولا تخفيف ] .
ثم قال تعالى : (
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) أي : لا يغني عنكم اجتماعكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم .
وقوله : (
أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين ) أي : ليس ذلك إليك ، إنما عليك البلاغ ، وليس عليك هداهم ، ولكن الله يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وهو الحكم العدل في ذلك .
[ ص: 229 ]
ثم قال : (
فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون ) أي : لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ، ولو ذهبت أنت ، (
أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون ) أي : نحن قادرون على هذا وعلى هذا . ولم يقبض الله رسوله حتى أقر عينه من أعدائه ، وحكمه في نواصيهم ، وملكه ما تضمنته صياصيهم . هذا معنى قول
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، واختاره
ابن جرير .
وقال
ابن جرير حدثنا
ابن عبد الأعلى ، حدثنا
ابن ثور ، عن
معمر قال : تلا
قتادة : (
فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون ) فقال : ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقيت النقمة ، ولم ير الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في أمته شيئا يكرهه ، حتى مضى ، ولم يكن نبي قط إلا ورأى العقوبة في أمته ، إلا نبيكم - صلى الله عليه وسلم - . قال : وذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أري ما يصيب أمته من بعده ، فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله عز وجل .
وذكر من رواية
nindex.php?page=showalam&ids=12514سعيد بن أبي عروبة ، عن
قتادة نحوه . ثم روى
ابن جرير عن
الحسن نحو ذلك أيضا .
وفي الحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=822905النجوم أمنة للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون " .
ثم قال تعالى : (
فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ) أي : خذ بالقرآن المنزل على قلبك ، فإنه هو الحق ، وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم ، الموصل إلى جنات النعيم ، والخير الدائم المقيم .
ثم قال : (
وإنه لذكر لك ولقومك ) قيل : معناه لشرف لك ولقومك ، قاله
ابن عباس ، ومجاهد ،
وقتادة ،
nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي ،
وابن زيد . واختاره
ابن جرير ، ولم يحك سواه .
وأورد
البغوي هاهنا حديث
الزهري ، عن
محمد بن جبير بن مطعم ، عن
معاوية قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=822492إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " . رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
و [ قيل ] معناه أنه شرف لهم من حيث إنه أنزل بلغتهم ، فهم أفهم الناس له ، فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به وأعملهم بمقتضاه ، وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخلص من المهاجرين السابقين الأولين ، ومن شابههم وتابعهم .
وقيل : معناه : (
وإنه لذكر لك ولقومك ) أي : لتذكير لك ولقومك ، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم ، كقوله : (
لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ) [ الأنبياء : 10 ] ، وكقوله : (
وأنذر عشيرتك الأقربين ) [ الشعراء : 214 ] .
[ ص: 230 ]
(
وسوف تسألون ) أي : عن هذا القرآن وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له .
وقوله : (
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) ؟ أي : جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد ، كقوله : (
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل : 36 ] . قال
مجاهد : في قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود : " واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا " . وهكذا حكاه
قتادة والضحاك nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي ، عن
ابن مسعود . وهذا كأنه تفسير لا تلاوة ، والله أعلم .
وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : واسألهم ليلة الإسراء ، فإن الأنبياء جمعوا له . واختار
ابن جرير الأول ، [ والله أعلم ] .