[ ص: 364 ] تفسير سورة الحجرات وهي مدنية .
بسم الله الرحمن الرحيم (
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ( 1 )
يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ( 2 )
إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ( 3 ) )
هذه
آداب أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام ، فقال : (
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [ واتقوا الله ] ) ، أي : لا تسرعوا في الأشياء بين يديه ، أي : قبله ، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=826168معاذ ، [ إذ ] قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه إلى اليمن : " بم تحكم ؟ " قال : بكتاب الله . قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : بسنة رسول الله . قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : أجتهد رأيي ، فضرب في صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله ، لما يرضي رسول الله " .
وقد رواه
أحمد ،
وأبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه . فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله .
قال
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : (
لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة .
وقال
العوفي عنه : نهى أن يتكلموا بين يدي كلامه .
وقال
مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء ، حتى يقضي الله على لسانه .
وقال
الضحاك : لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري : (
لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) بقول ولا فعل .
[ ص: 365 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : (
لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) قال : لا تدعوا قبل الإمام .
وقال
قتادة : ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا كذا ، وكذا لو صنع كذا ، فكره الله ذلك ، وتقدم فيه .
(
واتقوا الله ) أي : فيما أمركم به ، (
إن الله سميع ) أي : لأقوالكم ) عليم ) بنياتكم .
وقوله : (
ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) : هذا أدب ثان أدب الله به المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - [ فوق صوته ] . وقد روي أنها نزلت في الشيخين
أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : حدثنا
بسرة بن صفوان اللخمي ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17194نافع بن عمر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12531ابن أبي مليكة قال : كاد الخيران أن يهلكا
، أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، رفعا أصواتهما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم عليه ركب
بني تميم ، فأشار أحدهما
بالأقرع بن حابس أخي
بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر - قال
نافع : لا أحفظ اسمه - فقال
أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي . قال : ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله : (
يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) الآية ، قال
ابن الزبير : فما كان
عمر يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه : يعني
أبا بكر رضي الله عنه . انفرد به دون
مسلم .
ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : حدثنا
حسن بن محمد ، حدثنا
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=12531ابن أبي مليكة : أن
عبد الله بن الزبير أخبره : أنه قدم ركب من
بني تميم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال
أبو بكر : أمر
القعقاع بن معبد . وقال
عمر : بل أمر
الأقرع بن حابس ، فقال
أبو بكر : ما أردت إلى - أو : إلا - خلافي . فقال
عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزلت في ذلك : (
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) ، حتى انقضت الآية ، (
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم ) الآية [ الحجرات : 5 ] .
وهكذا رواه هاهنا منفردا به أيضا .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13863الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا
الفضل بن سهل ، حدثنا
إسحاق بن منصور ، حدثنا
حصين بن عمر ، عن
مخارق ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16243طارق بن شهاب ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=826169عن nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر الصديق قال : لما نزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) ، قلت : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار .
[ ص: 366 ] حصين بن عمر هذا - وإن كان ضعيفا - لكن قد رويناه من حديث
عبد الرحمن بن عوف ،
nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة [ رضي الله عنه ] بنحو ذلك ، والله أعلم .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : حدثنا
علي بن عبد الله ، حدثنا
أزهر بن سعد ، أخبرنا
ابن عون ، أنبأني
موسى بن أنس ، عن
أنس بن مالك رضي الله عنه ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=823863أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد nindex.php?page=showalam&ids=215ثابت بن قيس ، فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أعلم لك علمه . فأتاه فوجده في بيته منكسا رأسه ، فقال له : ما شأنك ؟ فقال : شر ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله ، فهو من أهل النار . فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه قال كذا وكذا ، قال موسى : فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال : " اذهب إليه فقل له : إنك لست من أهل النار ، ولكنك من أهل الجنة " تفرد به
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من هذا الوجه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : حدثنا
هاشم ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16034سليمان بن المغيرة ، عن
ثابت ، عن
أنس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823864لما نزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) إلى : ( وأنتم لا تشعرون ) ، وكان nindex.php?page=showalam&ids=215ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبط عملي ، أنا من أهل النار ، وجلس في أهله حزينا ، ففقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له : تفقدك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لك ؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجهر له بالقول حبط عملي ، أنا من أهل النار . فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه بما قال ، فقال : " لا بل هو من أهل الجنة " . قال أنس : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة . فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف ، فجاء nindex.php?page=showalam&ids=215ثابت بن قيس بن شماس ، وقد تحنط ولبس كفنه ، فقال : بئسما تعودون أقرانكم . فقاتلهم حتى قتل .
وقال
مسلم : حدثنا
أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا
الحسن بن موسى ، حدثنا
حماد بن سلمة ، عن
ثابت البناني ، عن
أنس بن مالك قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823865لما نزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) إلى آخر الآية ، جلس ثابت في بيته ، قال : أنا من أهل النار . واحتبس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - nindex.php?page=showalam&ids=307لسعد بن معاذ : " يا أبا عمرو ، ما شأن ثابت ؟ أشتكى ؟ " فقال سعد : إنه لجاري ، وما علمت له بشكوى . قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ثابت : أنزلت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنا من أهل النار . فذكر ذلك سعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بل هو من أهل الجنة " . [ ص: 367 ] ثم رواه
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=14273أحمد بن سعيد الدارمي ، عن
حيان بن هلال ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16034سليمان بن المغيرة ، به ، قال : ولم يذكر
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ . وعن
قطن بن نسير عن
جعفر بن سليمان ، عن
ثابت ، عن
أنس بنحوه . وقال : ليس فيه ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ .
حدثنا
هريم بن عبد الأعلى الأسدي ، حدثنا
المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي يذكر عن
ثابت ، عن
أنس قال : لما نزلت هذه الآية ، واقتص الحديث ، ولم يذكر
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ ، وزاد : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة . .
فهذه الطرق الثلاث معللة لرواية
حماد بن سلمة ، فيما تفرد به من ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ . والصحيح : أن حال نزول هذه الآية لم يكن
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ موجودا ; لأنه كان قد مات بعد
بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس ، وهذه الآية نزلت في وفد
بني تميم ، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة ، والله أعلم .
وقال
ابن جرير : حدثنا
أبو كريب ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15945زيد بن الحباب ، حدثنا
أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شماس ، حدثني عمي
إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس ، عن أبيه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=826170لما نزلت هذه الآية : ( لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول ) قال : قعد nindex.php?page=showalam&ids=215ثابت بن قيس في الطريق يبكي ، قال : فمر به عاصم بن عدي من بني العجلان ، فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟ قال : هذه الآية ، أتخوف أن تكون نزلت في وأنا صيت ، رفيع الصوت . قال : فمضى عاصم بن عدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : وغلبه البكاء ، فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي ابن سلول فقال لها : إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله عز وجل ، أو يرضى عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : وأتى عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبره ، فقال : " اذهب فادعه لي " . فجاء عاصم إلى المكان فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوك . فقال : اكسر الضبة . قال : فخرجا فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما يبكيك يا ثابت ؟ " . فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في : ( لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول ) . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما ترضى أن تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة ؟ " . فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا أرفع صوتي أبدا على صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال : وأنزل الله : ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ) .
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك ، فقد نهى الله عز وجل ، عن رفع الأصوات
[ ص: 368 ] بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد روينا عن أمير المؤمنين
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] أنه سمع صوت رجلين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ارتفعت أصواتهما ، فجاء ، فقال : أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال : من أين أنتما ؟ قالا : من
أهل الطائف . فقال : لو كنتما من
أهل المدينة لأوجعتكما ضربا .
وقال العلماء : يكره
رفع الصوت عند قبره ، كما كان يكره في حياته ; لأنه محترم حيا وفي قبره ، صلوات الله وسلامه عليه ، دائما . ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه ، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم ; ولهذا قال : (
ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) ، كما قال : (
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) [ النور : 63 ] .
وقوله : (
أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) أي : إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك ، فيغضب الله لغضبه ، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدري ، كما جاء في الصحيح : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=826171إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة . وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماوات والأرض " .
ثم ندب الله عز وجل ، إلى خفض الصوت عنده ، وحث على ذلك ، وأرشد إليه ، ورغب فيه ، فقال : (
إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ) أي : أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا (
لهم مغفرة وأجر عظيم ) .
وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد في كتاب الزهد : حدثنا
عبد الرحمن ، حدثنا
سفيان ، عن
منصور ، عن
مجاهد ، قال : كتب إلى
عمر يا أمير المؤمنين ، رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها ، أفضل ، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها ؟ فكتب
عمر ، رضي الله عنه : إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها (
أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ) .