(
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص ( 36 )
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ( 37 )
ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ( 38 )
فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ( 39 )
ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ( 40 ) )
يقول تعالى : وكم أهلكنا قبل هؤلاء المنكرين : (
من قرن هم أشد منهم بطشا ) أي : كانوا أكثر منهم وأشد قوة ، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ; ولهذا قال هاهنا : (
فنقبوا في البلاد ) قال
ابن عباس : أثروا فيها . وقال
مجاهد : (
فنقبوا في البلاد ) : ضربوا في الأرض . وقال
قتادة : فساروا في البلاد ، أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم أنتم فيها ويقال لمن طوف في البلاد : نقب فيها . قال
امرؤ القيس :
لقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
[ ص: 409 ] وقوله : (
هل من محيص ) أي : هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره ؟ وهل نفعهم ما جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل ؟ فأنتم أيضا لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص .
وقوله : (
إن في ذلك لذكرى ) أي : لعبرة (
لمن كان له قلب ) أي : لب يعي به . وقال
مجاهد : عقل (
أو ألقى السمع وهو شهيد ) أي : استمع الكلام فوعاه ، وتعقله بقلبه وتفهمه بلبه .
وقال
مجاهد : (
أو ألقى السمع ) يعني : لا يحدث نفسه بغيره ، (
وهو شهيد ) وقال : شاهد بالقلب .
وقال
الضحاك : العرب تقول : ألقى فلان سمعه : إذا استمع بأذنيه وهو شاهد ، يقول : غير غائب . وهكذا قال
الثوري وغير واحد .
وقوله : (
ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) : فيه تقرير المعاد ; لأن من قدر على خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى .
وقال
قتادة : قالت اليهود - عليهم لعائن الله - :
خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استراح في اليوم السابع ، وهو يوم السبت ، وهم يسمونه يوم الراحة ، فأنزل الله تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه : (
وما مسنا من لغوب ) أي : من إعياء ولا نصب ولا تعب ، كما قال في الآية الأخرى : (
أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ) [ الأحقاف : 33 ] ، وكما قال : (
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ) [ غافر : 57 ] وقال (
أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ) [ النازعات : 27 ] .
وقوله : (
فاصبر على ما يقولون ) يعني : المكذبين ، اصبر عليهم واهجرهم هجرا جميلا (
وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ) ، وكانت
الصلاة المفروضة قبل الإسراء ثنتين قبل طلوع الشمس في وقت الفجر ، وقبل الغروب في وقت العصر ،
وقيام الليل كان واجبا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أمته حولا ثم نسخ في حق الأمة وجوبه . ثم بعد ذلك نسخ الله ذلك كله ليلة الإسراء بخمس صلوات ، ولكن منهن صلاة الصبح والعصر ، فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب .
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، حدثنا
إسماعيل بن أبي خالد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16834قيس بن أبي حازم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=97جرير بن عبد الله قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823924كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : " أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر ، لا تضامون فيه ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، فافعلوا " ثم قرأ : ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب )
[ ص: 410 ] ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم وبقية الجماعة ، من حديث
إسماعيل ، به .
وقوله : (
ومن الليل فسبحه ) أي : فصل له ، كقوله : (
ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) [ الإسراء : 79 ] .
(
وأدبار السجود ) قال
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، عن
ابن عباس : هو
التسبيح بعد الصلاة .
ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823925جاء فقراء المهاجرين فقالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم . فقال : " وما ذاك ؟ " قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ! قال : " أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم ؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين " . قال : فقالوا : يا رسول الله ، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ، ففعلوا مثله . قال : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " .
والقول الثاني : أن المراد بقوله : (
وأدبار السجود ) هما الركعتان بعد المغرب ، روي ذلك عن
عمر وعلي ، وابنه
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة ،
وأبي أمامة ، وبه يقول
مجاهد ،
وعكرمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ،
والنخعي والحسن ،
وقتادة وغيرهم .
قال الإمام
أحمد : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع وعبد الرحمن ، عن
سفيان ، عن
أبي إسحاق ، عن
عاصم بن ضمرة ، عن
علي قال : كان
nindex.php?page=hadith&LINKID=823926رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر . وقال
عبد الرحمن : دبر كل صلاة .
ورواه
أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ، من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري ، به . زاد
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي :
ومطرف ، عن
أبي إسحاق ، به .
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17221هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا
ابن فضيل ، عن
رشدين بن كريب ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=826197بت ليلة عند رسول - صلى الله عليه وسلم - فصلى ركعتين خفيفتين ، اللتين قبل الفجر . ثم خرج إلى الصلاة فقال : " يابن عباس ، ركعتين قبل صلاة الفجر إدبار النجوم ، وركعتين بعد المغرب إدبار السجود " .
ورواه
الترمذي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14381أبي هشام الرفاعي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17011محمد بن فضيل ، به . وقال : غريب لا نعرفه إلا
[ ص: 411 ] من هذا الوجه .
وحديث
ابن عباس ، وأنه بات في بيت خالته
ميمونة وصلى تلك الليلة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة ركعة ، ثابت في الصحيحين وغيرهما ، فأما هذه الزيادة فغريبة [ و ] لا تعرف إلا من هذا الوجه
، ورشدين بن كريب ضعيف ، ولعله من كلام
ابن عباس موقوفا عليه ، والله أعلم .
(
واستمع يوم ينادي المناد من مكان قريب ( 41 )
يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ( 42 )
إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير ( 43 )
يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير ( 44 )
نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ( 45 ) )
يقول تعالى : ( واستمع ) يا
محمد (
يوم ينادي المناد من مكان قريب ) قال
قتادة : قال
كعب الأحبار : يأمر الله [ تعالى ] ملكا أن ينادي على صخرة
بيت المقدس : أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء .
(
يوم يسمعون الصيحة بالحق ) يعني :
النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون . (
ذلك يوم الخروج ) أي : من الأجداث .
(
إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير ) أي : هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، وهو أهون عليه ، وإليه مصير الخلائق كلهم ، فيجازي كلا بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
وقوله : (
يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ) : وذلك أن الله تعالى ينزل مطرا من السماء تنبت به أجساد الخلائق في قبورها ، كما ينبت الحب في الثرى بالماء ، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله
إسرافيل فينفخ في الصور ، وقد أودعت الأرواح في ثقب في الصور ، فإذا نفخ
إسرافيل فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض ، فيقول الله عز وجل : وعزتي وجلالي ، لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره ، فترجع كل روح إلى جسدها ، فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ وتنشق الأرض عنهم ، فيقومون إلى موقف الحساب سراعا ، مبادرين إلى أمر الله عز وجل ، (
مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر ) [ القمر : 8 ] ، وقال الله تعالى : (
يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ) [ الإسراء : 52 ] ، وفي صحيح مسلم عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=820615أنا أول من تنشق عنه الأرض " .
[ ص: 412 ] وقوله : (
ذلك حشر علينا يسير ) أي : تلك إعادة سهلة علينا يسيرة لدينا ، كما قال تعالى : (
وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) [ القمر : 50 ] ، وقال تعالى : (
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير ) [ لقمان : 28 ] .
وقوله : (
نحن أعلم بما يقولون ) أي : نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب فلا يهيدنك ذلك ، كقوله [ تعالى ] : (
ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ الحجر : 97 - 99 ] .
وقوله : (
وما أنت عليهم بجبار ) أي : ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى ، وليس ذلك ما كلفت به .
وقال
مجاهد ،
وقتادة ،
والضحاك : (
وما أنت عليهم بجبار ) أي : لا تتجبر عليهم .
والقول الأول أولى ، ولو أراد ما قالوه لقال : ولا تكن جبارا عليهم ، وإنما قال : (
وما أنت عليهم بجبار ) بمعنى : وما أنت بمجبرهم على الإيمان إنما أنت مبلغ .
قال
الفراء : سمعت العرب تقول : جبر فلان فلانا على كذا ، بمعنى أجبره .
ثم قال تعالى : (
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) أي : بلغ أنت رسالة ربك ،
فإنما يتذكر من يخاف الله ووعيده ويرجو وعده ، كقوله [ تعالى ] : (
فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) [ الرعد : 40 ] ، وقوله : (
فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ) [ الغاشية : 21 ، 22 ] ، (
ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) [ البقرة : 272 ] ، (
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) [ القصص : 56 ] ، ولهذا قال هاهنا : (
وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) كان
قتادة يقول : اللهم ، اجعلنا ممن يخاف وعيدك ، ويرجو موعودك ، يا بار ، يا رحيم .
آخر تفسير سورة ( ق ) ، والحمد لله وحده ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .