( إن المتقين في جنات وعيون ( 15 )
آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ( 16 )
كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ( 17 )
وبالأسحار هم يستغفرون ( 18 )
وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ( 19 )
وفي الأرض آيات للموقنين ( 20 )
وفي أنفسكم أفلا تبصرون ( 21 )
وفي السماء رزقكم وما توعدون ( 22 )
فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ( 23 ) )
يقول تعالى مخبرا عن
المتقين لله ، عز وجل : إنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من العذاب والنكال ، والحريق والأغلال .
وقوله : (
آخذين ما آتاهم ربهم ) : قال
ابن جرير : أي عاملين بما آتاهم الله من الفرائض . (
إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ) أي : قبل أن يفرض عليهم الفرائض . كانوا محسنين في الأعمال أيضا . ثم روى عن
ابن حميد ، حدثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
أبي عمر ، عن
مسلم البطين ، عن
ابن عباس في قوله : (
آخذين ما آتاهم ربهم ) قال : من الفرائض ، (
إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ) : قبل الفرائض يعملون . وهذا الإسناد ضعيف ، ولا يصح عن
ابن عباس . وقد رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16544عثمان بن أبي شيبة ، عن
معاوية بن هشام ، عن
سفيان ، عن
أبي عمر البزار ، عن
مسلم البطين ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس ، فذكره . والذي فسر به
ابن جرير فيه نظر ; لأن قوله : ( آخذين ) حال من قوله : (
في جنات وعيون ) : فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذون ما آتاهم ربهم ، أي : من النعيم والسرور والغبطة .
وقوله : (
إنهم كانوا قبل ذلك ) أي : في الدار الدنيا ) محسنين ) ، كقوله : (
كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ) [ الحاقة : 24 ] ثم إنه تعالى بين إحسانهم في العمل فقال : (
كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) ، اختلف المفسرون في ذلك على قولين :
أحدهما : أن " ما " نافية ، تقديره : كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه . قال
ابن عباس : لم تكن
[ ص: 417 ] تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئا . وقال
قتادة ، عن
مطرف بن عبد الله : قل ليلة تأتي عليهم لا يصلون فيها لله عز وجل ، إما من أولها وإما من أوسطها . وقال
مجاهد : قل ما يرقدون ليلة حتى الصباح لا يتهجدون . وكذا قال
قتادة . وقال
أنس بن مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=11873وأبو العالية : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء . وقال
أبو جعفر الباقر ، كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة .
والقول الثاني : أن " ما " مصدرية ، تقديره : كانوا قليلا من الليل هجوعهم ونومهم . واختاره
ابن جرير . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : (
كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) : كابدوا
قيام الليل ، فلا ينامون من الليل إلا أقله ، ونشطوا فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بسحر . وقال
قتادة : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13669الأحنف بن قيس : (
كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) : كانوا لا ينامون إلا قليلا ثم يقول : لست من أهل هذه الآية . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : كان
nindex.php?page=showalam&ids=13669الأحنف بن قيس يقول : عرضت عملي على عمل أهل الجنة ، فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا ، إذا قوم لا نبلغ أعمالهم ، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وعرضت عملي على عمل أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم يكذبون بكتاب الله وبرسل الله ، يكذبون بالبعث بعد الموت ، فوجدت من خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا .
وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال رجل من
بني تميم لأبي : يا
أبا أسامة ، صفة لا أجدها فينا ، ذكر الله قوما فقال : (
كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) ، ونحن والله قليلا من الليل ما نقوم . فقال له أبي : طوبى لمن رقد إذا نعس ، واتقى الله إذا استيقظ .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823928لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، انجفل الناس إليه ، فكنت فيمن انجفل . فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب ، فكان أول ما سمعته يقول : " يا أيها الناس ، أطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وأفشوا السلام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام " .
وقال الإمام
أحمد : حدثنا
حسن بن موسى ، حدثنا
ابن لهيعة ، حدثني
حيي بن عبد الله ، عن
أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن
عبد الله بن عمرو ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823929 " إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها " . فقال أبو موسى الأشعري : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : " لمن ألان الكلام ، وأطعم الطعام ، وبات لله قائما والناس نيام " .
وقال
معمر في قوله : (
كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) : كان
الزهري والحسن يقولان :
[ ص: 418 ] كانوا كثيرا من الليل ما يصلون .
وقال
ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم النخعي : (
كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) : ما ينامون .
وقال
الضحاك : (
إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا ) ثم ابتدأ فقال : (
من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون ) .
وقوله عز وجل : (
وبالأسحار هم يستغفرون ) . قال
مجاهد ، وغير واحد : يصلون . وقال آخرون :
قاموا الليل ، وأخروا الاستغفار إلى الأسحار . كما قال تعالى : (
والمستغفرين بالأسحار ) [ آل عمران : 17 ] ، فإن كان الاستغفار في صلاة فهو أحسن . وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=826199إن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول : هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من سائل فيعطى سؤله ؟ حتى يطلع الفجر " .
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن
يعقوب : أنه قال لبنيه : (
سوف أستغفر لكم ربي ) [ يوسف 98 ] قالوا : أخرهم إلى وقت السحر .
وقوله : (
وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) : لما وصفهم بالصلاة ثنى بوصفهم بالزكاة والبر والصلة ، فقال : (
وفي أموالهم حق ) أي : جزء مقسوم قد أفرزوه (
للسائل والمحروم ) ، أما السائل فمعروف ، وهو الذي يبتدئ بالسؤال ، وله حق ، كما قال الإمام
أحمد :
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع وعبد الرحمن قالا : حدثنا
سفيان ، عن
مصعب بن محمد ، عن
يعلى بن أبي يحيى ، عن
فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها
الحسين بن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=820410للسائل حق وإن جاء على فرس " .
ورواه
أبو داود من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري ، به ثم أسنده من وجه آخر عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب . وروي من حديث
الهرماس بن زياد مرفوعا .
وأما ) المحروم ) ، فقال
ابن عباس ،
ومجاهد : هو المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم . يعني : لا سهم له في بيت المال ، ولا كسب له ، ولا حرفة يتقوت منها .
وقالت أم المؤمنين
عائشة : هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه . وقال
الضحاك : هو الذي لا يكون له مال إلا ذهب ، قضى الله له ذلك .
[ ص: 419 ] وقال
أبو قلابة : جاء سيل
باليمامة فذهب بمال رجل ، فقال رجل من الصحابة : هذا المحروم .
وقال
ابن عباس أيضا
nindex.php?page=showalam&ids=15990، وسعيد بن المسيب ،
nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم النخعي ،
ونافع - مولى
ابن عمر -
nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء بن أبي رباح ) المحروم ) : المحارف .
وقال
قتادة ،
nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري : ( المحروم ) : الذي لا يسأل الناس شيئا ، قال
الزهري وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=823930ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه " .
وهذا الحديث قد أسنده الشيخان في صحيحيهما من وجه آخر .
وقال
سعيد بن جبير : هو الذي يجيء وقد قسم المغنم ، فيرضخ له .
وقال
محمد بن إسحاق : حدثني بعض أصحابنا قال : كنا مع
عمر بن عبد العزيز في طريق
مكة فجاء كلب فانتزع
عمر كتف شاة فرمى بها إليه ، وقال : يقولون : إنه المحروم .
وقال
الشعبي : أعياني أن أعلم ما المحروم .
واختار
ابن جرير أن المحروم : [ هو ] الذي لا مال له بأي سبب كان ، قد ذهب ماله ، سواء كان لا يقدر على الكسب ، أو قد هلك ماله أو نحوه بآفة أو نحوها .
وقال
الثوري ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16836قيس بن مسلم ، عن
الحسن بن محمد ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فغنموا ، فجاء قوم لم يشهدوا الغنيمة فنزلت هذه الآية : ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) .
وهذا يقتضي أن هذه مدنية ، وليس كذلك ، بل هي مكية شاملة لما بعدها .
وقوله : (
وفي الأرض آيات للموقنين ) أي : فيها من
الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة ، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات ، والمهاد والجبال ، والقفار والأنهار والبحار ، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم ، وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى ، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والحركات ، والسعادة والشقاوة ، وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه ; ولهذا قال : (
وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) : قال
قتادة : من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة .
ثم قال : (
وفي السماء رزقكم ) يعني : المطر ، (
وما توعدون ) يعني : الجنة . قاله
ابن عباس ،
[ ص: 420 ] ومجاهد وغير واحد .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري : قرأ
واصل الأحدب هذه الآية : (
وفي السماء رزقكم وما توعدون ) فقال : ألا إني أرى رزقي في السماء ، وأنا أطلبه في الأرض ؟ فدخل خربة فمكث [ فيها ] ثلاثا لا يصيب شيئا ، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب ، وكان له أخ أحسن نية منه ، فدخل معه فصارتا دوخلتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الموت بينهما .
وقوله : (
فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر
القيامة والبعث والجزاء ، كائن لا محالة ، وهو حق لا مرية فيه ، فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون . وكان
معاذ ، رضي الله عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه : إن هذا لحق كما أنك هاهنا .
قال
مسدد ، عن
ابن أبي عدي ، عن
عوف ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري قال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "
قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا " .
ورواه
ابن جرير ، عن
بندار ، عن
ابن أبي عدي ، عن
عوف ، عن
الحسن ، فذكره مرسلا .