بسم الله الرحمن الرحيم
(
إذا وقعت الواقعة ( 1 )
ليس لوقعتها كاذبة ( 2 )
خافضة رافعة ( 3 )
إذا رجت الأرض رجا ( 4 )
وبست الجبال بسا ( 5 )
فكانت هباء منبثا ( 6 )
وكنتم أزواجا ثلاثة ( 7 )
فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ( 8 )
وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ( 9 )
والسابقون السابقون ( 10 )
أولئك المقربون ( 11 )
في جنات النعيم ( 12 ) ) .
الواقعة : من أسماء يوم القيامة ، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها ، كما قال : (
فيومئذ وقعت الواقعة ) [ الحاقة : 15 ]
وقوله : (
ليس لوقعتها كاذبة ) أي : ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها ، ولا دافع يدفعها ، كما قال : (
استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ) [ الشورى : 47 ] ، وقال : (
سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع ) [ المعارج : 1 ، 2 ] ، وقال تعالى : (
ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ) [ الأنعام : 73 ] .
ومعنى ) كاذبة ) - كما قال
محمد بن كعب - : لا بد أن تكون . وقال
قتادة : ليس فيها مثنوية ولا
[ ص: 514 ] ارتداد ولا رجعة .
قال
ابن جرير : والكاذبة : مصدر كالعاقبة والعافية .
وقوله : (
خافضة رافعة ) أي : تحفض أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم ، وإن كانوا في الدنيا أعزاء . وترفع آخرين إلى أعلى عليين ، إلى النعيم المقيم ، وإن كانوا في الدنيا وضعاء . وهكذا قال
الحسن وقتادة ، وغيرهما .
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا
يزيد بن عبد الرحمن بن مصعب المعنى ، حدثنا
حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي ، عن أبيه ، عن
سماك ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس : (
خافضة رافعة ) تخفض أناسا وترفع آخرين .
وقال
عبيد الله العتكي ، عن
عثمان بن سراقة ، ابن خالة
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب : (
خافضة رافعة ) [ قال ] : الساعة خفضت أعداء الله إلى النار ، ورفعت أولياء الله إلى الجنة .
وقال
محمد بن كعب : تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين ، وترفع رجالا كانوا في الدنيا مخفوضين .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : خفضت المتكبرين ، ورفعت المتواضعين .
وقال
العوفي ، عن
ابن عباس : (
خافضة رافعة ) أسمعت القريب والبعيد . وقال
عكرمة : خفضت فأسمعت الأدنى ، ورفعت فأسمعت الأقصى . وكذا قال
الضحاك ،
وقتادة .
وقوله : (
إذا رجت الأرض رجا ) أي : حركت تحريكا فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها . ولهذا قال
ابن عباس ، ومجاهد ،
وقتادة ، وغير واحد في قوله : (
إذا رجت الأرض رجا ) أي : زلزلت زلزالا [ شديدا ] .
وقال
الربيع بن أنس : ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه .
وهذه كقوله تعالى : (
إذا زلزلت الأرض زلزالها ) [ الزلزلة : 1 ] ، وقال تعالى : (
يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) [ الحج : 1 ] .
وقوله : (
وبست الجبال بسا ) أي : فتتت فتا . قاله
ابن عباس ،
ومجاهد ،
وعكرمة ،
وقتادة ، وغيرهم .
وقال
ابن زيد : صارت الجبال كما قال [ الله ] تعالى : (
كثيبا مهيلا ) [ المزمل : 14 ] .
وقوله : (
فكانت هباء منبثا ) ، قال
أبو إسحاق ، عن
الحارث ، عن
علي ، رضي الله عنه : (
هباء منبثا )
[ ص: 515 ] كرهج الغبار يسطع ثم يذهب ، فلا يبقى منه شيء .
وقال
العوفي عن
ابن عباس في قوله : (
فكانت هباء منبثا ) : الهباء الذي يطير من النار ، إذا اضطرمت يطير منه الشرر ، فإذا وقع لم يكن شيئا .
وقال
عكرمة : المنبث : الذي ذرته الريح وبثته . وقال
قتادة : (
هباء منبثا ) كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح .
وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة ، وذهابها وتسييرها ونسفها - أي قلعها - وصيرورتها كالعهن المنفوش .
وقوله : (
وكنتم أزواجا ثلاثة ) أي :
ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف : قوم عن يمين العرش ، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن ، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ، ويؤخذ بهم ذات اليمين . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : وهم جمهور أهل الجنة . وآخرون عن يسار العرش ، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر ، ويؤتون كتبهم بشمائلهم ، ويؤخذ بهم ذات الشمال ، وهم عامة أهل النار - عياذا بالله من صنيعهم - وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم ، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء ، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين ; ولهذا قال : (
فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون ) وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم ، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى : (
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) الآية [ فاطر : 32 ] ، وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري ، عن
جابر الجعفي ، عن
مجاهد ، عن
ابن عباس في قوله : (
وكنتم أزواجا ثلاثة ) قال : هي التي في سورة الملائكة : (
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ) .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
ابن عباس : هذه الأزواج الثلاثة هم المذكورون في آخر السورة وفي سورة الملائكة .
وقال
يزيد الرقاشي : سألت
ابن عباس عن قوله : (
وكنتم أزواجا ثلاثة ) قال : أصنافا ثلاثة .
وقال
مجاهد : (
وكنتم أزواجا ثلاثة ) [ قال ] : يعني : فرقا ثلاثة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17188ميمون بن مهران : أفواجا ثلاثة . وقال
عبيد الله العتكي ، عن
عثمان بن سراقة ابن خالة
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب : (
وكنتم أزواجا ثلاثة ) اثنان في الجنة ، وواحد في النار .
[ ص: 516 ] وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا
محمد بن الصباح ، حدثنا
الوليد بن أبي ثور ، عن
سماك ، عن
النعمان بن بشير قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3501395قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإذا النفوس زوجت ) [ التكوير : 7 ] قال : الضرباء ، كل رجل من قوم كانوا يعملون عمله ، وذلك بأن الله يقول : ( وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون ) قال : هم الضرباء .
وقال الإمام
أحمد : حدثنا
محمد بن عبد الله بن المثنى ، حدثنا
البراء الغنوي ، حدثنا
الحسن ، عن
معاذ بن جبل ; nindex.php?page=hadith&LINKID=826242أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية : ( وأصحاب اليمين ) ، ( وأصحاب الشمال ) فقبض بيده قبضتين فقال : " هذه للجنة ولا أبالي ، وهذه للنار ولا أبالي " .
وقال
أحمد أيضا : حدثنا
حسن ، حدثنا
ابن لهيعة ، حدثنا
خالد بن أبي عمران ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14946القاسم بن محمد ، عن
عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=824037 " أتدرون من السابقون إلى ظل يوم القيامة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم " .
وقال
محمد بن كعب وأبو حرزة يعقوب بن مجاهد : (
والسابقون السابقون ) : هم الأنبياء ، عليهم السلام . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : هم أهل عليين . وقال
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، عن
ابن عباس : (
والسابقون السابقون ) ، قال :
يوشع بن نون ، سبق إلى
موسى ، ومؤمن آل " يس " ، سبق إلى
عيسى ، nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي بن أبي طالب ، سبق إلى
محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . رواه
ابن أبي حاتم ، عن
محمد بن هارون الفلاس ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15186عبد الله بن إسماعيل المدائني البزاز ، عن
شعيب بن الضحاك المدائني ، عن
سفيان بن عيينة ، عن
ابن أبي نجيح به .
وقال
ابن أبي حاتم : وذكر
محمد بن أبي حماد ، حدثنا
مهران ، عن
خارجة ، عن
قرة ، عن
ابن سيرين : (
والسابقون السابقون ) الذين صلوا للقبلتين .
ورواه
ابن جرير من حديث
خارجة ، به .
وقال
الحسن وقتادة : (
والسابقون السابقون ) أي : من كل أمة .
وقال
الأوزاعي ، عن
عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية : (
والسابقون السابقون أولئك المقربون ) ثم قال : أولهم رواحا إلى المسجد ، وأولهم خروجا في سبيل الله .
[ ص: 517 ] وهذه الأقوال كلها صحيحة ، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا ، كما قال تعالى : (
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض ) [ آل عمران : 133 ] ، وقال : (
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) [ الحديد : 22 ] ، فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير ، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة ، فإن الجزاء من جنس العمل ، وكما تدين تدان ; ولهذا قال تعالى : (
أولئك المقربون في جنات النعيم ) .
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا
يحيى بن زكريا القزاز الرازي ، حدثنا
خارجة بن مصعب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16572عطاء بن يسار ، عن
عبد الله بن عمرو قال : قالت الملائكة : يا رب ، جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون ، فاجعل لنا الآخرة . فقال : لا أفعل . فراجعوا ثلاثا ، فقال : لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له : كن ، فكان . ثم قرأ عبد الله : (
والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ) .
وقد روى هذا الأثر الإمام
عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه : " الرد على
الجهمية " ، ولفظه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=826243فقال الله عز وجل : " لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له : كن فكان " .