(
فمال الذين كفروا قبلك مهطعين ( 36 )
عن اليمين وعن الشمال عزين ( 37 )
أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم ( 38 )
كلا إنا خلقناهم مما يعلمون ( 39 ) )
(
فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون ( 40 )
على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين ( 41 )
فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ( 42 )
يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ( 43 )
خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ( 44 ) )
[ ص: 228 ]
يقول تعالى منكرا على الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له ، ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله به من المعجزات الباهرات ، ثم هم مع هذا كله فارون منه ، متفرقون عنه ، شاردون يمينا وشمالا فرقا فرقا ، وشيعا شيعا ، كما قال تعالى : (
فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ) [ المدثر : 49 ، 51 ] الآية ، وهذه مثلها ; فإنه قال تعالى : (
فمال الذين كفروا قبلك مهطعين ) أي : فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا
محمد ) مهطعين ) أي مسرعين نافرين منك ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : ( مهطعين ) أي : منطلقين ، (
عن اليمين وعن الشمال عزين ) واحدها عزة ، أي : متفرقين . وهو حال من مهطعين ، أي : في حال تفرقهم واختلافهم ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد في أهل الأهواء : فهم مخالفون للكتاب ، مختلفون في الكتاب ، متفقون على مخالفة الكتاب .
وقال
العوفي ، عن
ابن عباس : (
فمال الذين كفروا قبلك مهطعين ) قال : قبلك ينظرون ، (
عن اليمين وعن الشمال عزين ) قال : العزين : العصب من الناس ، عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به .
وقال
ابن جرير : حدثنا
ابن بشار . حدثنا
أبو عامر ، حدثنا
قرة ، عن
الحسن في قوله : (
عن اليمين وعن الشمال عزين ) متفرقين ، يأخذون يمينا وشمالا يقولون : ما قال هذا الرجل ؟
وقال
قتادة : ( مهطعين ) عامدين ، (
عن اليمين وعن الشمال عزين ) أي : فرقا حول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرغبون في كتاب الله ، ولا في نبيه صلى الله عليه وسلم .
وقال
الثوري ،
وشعبة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16753وعيسى بن يونس ،
nindex.php?page=showalam&ids=16297وعبثر بن القاسم ،
nindex.php?page=showalam&ids=17011ومحمد بن فضيل ،
nindex.php?page=showalam&ids=17277ووكيع ،
nindex.php?page=showalam&ids=17293ويحيى القطان ،
وأبو معاوية ، كلهم عن
الأعمش ، عن
المسيب بن رافع ، عن
تميم بن طرفة nindex.php?page=hadith&LINKID=823230عن nindex.php?page=showalam&ids=98جابر بن سمرة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم حلق ، فقال : " ما لي أراكم عزين؟ "
رواه
أحمد ومسلم وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير من حديث
الأعمش به
[ ص: 229 ]
وقال
ابن جرير : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، حدثنا
مؤمل ، حدثنا
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16490عبد الملك بن عمير ، عن
أبي سلمة ،
عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حلق حلق ، فقال : " ما لي أراكم عزين؟ " .
وهذا إسناد جيد ، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه .
وقوله : (
أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم ) أي : أيطمع هؤلاء - والحالة هذه - من فرارهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونفارهم عن الحق - أن يدخلوا جنات النعيم ؟ كلا بل مأواهم الجحيم .
ثم قال تعالى مقررا لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا كونه واستبعدوا وجوده ، مستدلا عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها وهم معترفون بها ، فقال (
إنا خلقناهم مما يعلمون ) أي : من المني الضعيف ، كما قال : (
ألم نخلقكم من ماء مهين ) [ المرسلات : 20 ] . وقال : (
فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر ) [ الطارق : 5 - 10 ] .
ثم قال : (
فلا أقسم برب المشارق والمغارب ) أي : الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل مشرقا ومغربا ، وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها . وتقدير الكلام : ليس الأمر كما يزعمون أن لا معاد ولا حساب ، ولا بعث ولا نشور ، بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة . ولهذا أتى ب " لا " في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي ، وهو مضمون الكلام ، وهو الرد على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة ، وقد شاهدوا من
عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ من إقامة القيامة ، وهو
خلق السماوات والأرض ، وتسخير ما فيهما من المخلوقات من الحيوانات والجمادات ، وسائر صنوف الموجودات ; ولهذا قال تعالى : (
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ) [ غافر : 57 ] وقال تعالى : (
أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ) [ الأحقاف : 33 ] . وقال تعالى في الآية الأخرى : (
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) [ يس : 81 ، 82 ] . وقال هاهنا : (
فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم ) أي : يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه ، فإن قدرته صالحة لذلك ، (
وما نحن بمسبوقين ) أي : بعاجزين . كما قال تعالى : (
أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه ) [ القيامة : 3 ، 4 ] . وقال تعالى : (
نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ) [ الواقعة : 6 ، 61 ] .
واختار
ابن جرير (
على أن نبدل خيرا منهم ) أي : أمة تطيعنا ولا تعصينا وجعلها ، كقوله : (
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) [ محمد : 38 ] . والمعنى الأول أظهر لدلالة
[ ص: 230 ] الآيات الأخر عليه ، والله أعلم .
ثم قال تعالى : ( فذرهم ) أي : يا
محمد ) يخوضوا ويلعبوا ) أي : دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم ، (
حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ) أي : فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله (
يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ) أي :
يقومون من القبور إذا دعاهم الرب ، تبارك وتعالى ، لموقف الحساب ، ينهضون سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون .
قال
ابن عباس ومجاهد والضحاك : إلى علم يسعون . وقال
أبو العالية nindex.php?page=showalam&ids=17298ويحيى بن أبي كثير : إلى غاية يسعون إليها .
وقد قرأ الجمهور : " نصب " بفتح النون وإسكان الصاد ، وهو مصدر بمعنى المنصوب . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : ( نصب ) بضم النون والصاد ، وهو الصنم ، أي : كأنهم في إسراعهم إلى الموقف كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه يوفضون ، يبتدرون ، أيهم يستلمه أول ، وهذا مروي عن
مجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=17298ويحيى بن أبي كثير ،
ومسلم البطين ،
وقتادة ،
والضحاك ،
nindex.php?page=showalam&ids=14354والربيع بن أنس ،
وأبي صالح ،
nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم بن بهدلة ،
وابن زيد وغيرهم .
وقوله : ( خاشعة أبصارهم ) أي : خاضعة ) ترهقهم ذلة ) أي : في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة ، (
ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون )
آخر تفسير سورة " سأل سائل " ولله الحمد والمنة .