(
قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ( 5 )
فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ( 6 )
وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ( 7 )
ثم إني دعوتهم جهارا ( 8 )
ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ( 9 )
فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ( 10 )
يرسل السماء عليكم مدرارا ( 11 )
ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ( 12 )
ما لكم لا ترجون لله وقارا ( 13 )
وقد خلقكم أطوارا ( 14 )
ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ( 15 )
وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ( 16 )
والله أنبتكم من الأرض نباتا ( 17 )
ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ( 18 )
والله جعل لكم الأرض بساطا ( 19 )
لتسلكوا منها سبلا فجاجا ( 20 ) )
[ ص: 232 ]
يخبر تعالى عن عبده ورسوله
نوح عليه السلام ، أنه اشتكى إلى ربه ، عز وجل ، ما لقي من قومه ، وما صبر عليهم في تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلا خمسين عاما ، وما بين لقومه ووضح لهم ودعاهم إلى الرشد والسبيل الأقوم ، فقال : (
رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ) أي : لم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار ، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك ، (
فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ) أي : كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فروا منه وحادوا عنه ، . (
وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ) أي : سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه . كما أخبر تعالى عن كفار
قريش : (
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) [ فصلت : 26 ] .
(
واستغشوا ثيابهم ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
ابن عباس : تنكروا له لئلا يعرفهم . وقال
سعيد بن جبير nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي : غطوا رءوسهم لئلا يسمعوا ما يقول .
( وأصروا ) أي : استمروا على ما هم فيه من الشرك والكفر العظيم الفظيع ، ( واستكبروا استكبارا ) أي : واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له .
(
ثم إني دعوتهم جهارا ) أي : جهرة بين الناس .
(
ثم إني أعلنت لهم ) أي : كلاما ظاهرا بصوت عال ، (
وأسررت لهم إسرارا ) أي : فيما بيني وبينهم ، عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم .
(
فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ) أي : ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب ، فإنه
من تاب إليه تاب عليه ، ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك ؛ ولهذا قال : (
فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ) أي : متواصلة الأمطار . ولهذا تستحب
قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية . وهكذا روي عن أمير المؤمنين
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب : أنه صعد المنبر ليستسقي ، فلم يزد على
الاستغفار ، وقرأ الآيات في الاستغفار . ومنها
[ ص: 233 ] هذه الآية (
فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ) ثم قال : لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي ستنزل بها المطر .
وقال
ابن عباس وغيره : يتبع بعضه بعضا .
وقوله : (
ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) أي : إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه ، كثر الرزق عليكم ، وأسقاكم من بركات السماء ، وأنبت لكم من بركات الأرض ، وأنبت لكم الزرع ، وأدر لكم الضرع ، وأمدكم بأموال وبنين ، أي : أعطاكم الأموال والأولاد ، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار ، وخللها بالأنهار الجارية بينها .
هذا مقام الدعوة بالترغيب ، ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب فقال : (
ما لكم لا ترجون لله وقارا ) أي : عظمة ، قال
ابن عباس ومجاهد والضحاك وقال
ابن عباس : لا تعظمون الله حق عظمته ، أي : لا تخافون من بأسه ونقمته .
(
وقد خلقكم أطوارا ) قيل : معناه من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة . قاله
ابن عباس ،
وعكرمة ،
وقتادة ،
ويحيى بن رافع ،
nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي ،
وابن زيد .
وقوله : (
ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ) ؟ أي : واحدة فوق واحدة ، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط ؟ أو هي من الأمور المدركة بالحس ، مما علم من التسيير والكسوفات ، فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضا ، فأدناها القمر في السماء الدنيا وهو يكسف ما فوقه ، وعطارد في الثانية ، والزهرة في الثالثة ، والشمس في الرابعة ، والمريخ في الخامسة ، والمشتري في السادسة ، وزحل في السابعة . وأما بقية الكواكب - وهي الثوابت - ففي فلك ثامن يسمونه فلك الثوابت . والمتشرعون منهم يقولون : هو الكرسي ، والفلك التاسع ، وهو الأطلس ، والأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك ، وذلك أن حركته مبدأ الحركات ، وهي من المغرب إلى المشرق ; وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب ، ومعها يدور سائر الكواكب تبعا ، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها ، فإنها تسير من المغرب إلى المشرق . وكل يقطع فلكه بحسبه ، فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة ، والشمس في كل سنة مرة ، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة ، وذلك بحسب اتساع أفلاكها وإن كانت حركة الجمع في السرعة متناسبة ، هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام ، على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة ، لسنا بصدد بيانها ، وإنما المقصود أن الله سبحانه : (
خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ) أي : فاوت بينهما في الاستنارة فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة ، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها ، وقدر القمر منازل وبروجا ، وفاوت نوره ، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستسر ، ليدل على مضي الشهور والأعوام ، كما قال : (
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ) [ يونس : 5 ] .
[ ص: 234 ]
وقوله : (
والله أنبتكم من الأرض نباتا ) هذا اسم مصدر ، والإتيان به ها هنا أحسن ، ( ثم يعيدكم فيها ) أي : إذا متم ) ويخرجكم إخراجا ) أي : يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة .
(
والله جعل لكم الأرض بساطا ) أي : بسطها ومهدها وقررها وثبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات .
(
لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) أي : خلقها لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها أين شئتم ، من نواحيها وأرجائها وأقطارها ، وكل هذا مما ينبههم به
نوح عليه السلام على
قدرة الله وعظمته في خلق السماوات والأرض ، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية ، فهو الخالق الرزاق ، جعل السماء بناء ، والأرض مهادا ، وأوسع على خلقه من رزقه ، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد ; لأنه لا نظير له ولا عديل له ، ولا ند ولا كفء ، ولا صاحبة ولا ولد ، ولا وزير ولا مشير ، بل هو العلي الكبير .