[ ص: 287 ] (
إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا ( 4 )
إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ( 5 ) )
(
عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ( 6 )
يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ( 7 )
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ( 8 )
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ( 9 )
إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ( 10 )
فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا ( 11 )
وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ( 12 ) )
يخبر تعالى عما أرصده للكافرين من خلقه به من السلاسل والأغلال والسعير ، وهو اللهب والحريق في نار جهنم ، كما قال : (
إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ) [ غافر : 71 ، 72 ] .
ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير قال بعده : (
إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ) وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة ، مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة .
قال
الحسن : برد الكافور في طيب الزنجبيل ; ولهذا قال : (
عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ) أي : هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفا بلا مزج ويروون بها ; ولهذا ضمن يشرب " يروى " حتى عداه بالباء ، ونصب ) عينا ) على التمييز .
قال بعضهم : هذا الشراب في طيبه كالكافور . وقال بعضهم : هو من عين كافور . وقال بعضهم : يجوز أن يكون منصوبا ب ) يشرب ) حكى هذه الأقوال الثلاثة
ابن جرير .
وقوله : (
يفجرونها تفجيرا ) أي : يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا ، من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم .
والتفجير هو الإنباع ، كما قال تعالى : (
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) [ الإسراء : 90 ] . وقال : (
وفجرنا خلالهما نهرا ) [ الكهف : 33 ] .
وقال
مجاهد : (
يفجرونها تفجيرا ) يقودونها حيث شاؤوا ، وكذا قال
عكرمة وقتادة . وقال
الثوري : يصرفونها حيث شاؤوا .
وقوله : (
يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) أي : يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من [ فعل ] الطاعات الواجبة بأصل الشرع ، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر .
[ ص: 288 ]
قال
الإمام مالك ، عن
طلحة بن عبد الملك الأيلي ، عن
القاسم بن مالك ، عن
عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823273 " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ، رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من حديث
مالك .
ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد ، وهو اليوم الذي شره مستطير ، أي : منتشر عام على الناس إلا من رحم الله .
قال
ابن عباس : فاشيا . وقال
قتادة : استطار - والله - شر ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض .
قال
ابن جرير : ومنه قولهم : استطار الصدع في الزجاجة واستطال . ومنه قول
الأعشى :
فبانت وقد أسأرت في الفؤا د صدعا على نأيها مستطيرا
يعني : ممتدا فاشيا .
وقوله : (
ويطعمون الطعام على حبه ) قيل : على حب الله تعالى . وجعلوا الضمير عائدا إلى الله عز وجل لدلالة السياق عليه . والأظهر أن الضمير عائد على الطعام ، أي : ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له ، قاله
مجاهد ومقاتل ، واختاره
ابن جرير ، كقوله تعالى : (
وآتى المال على حبه ) [ البقرة : 177 ] ، وكقوله تعالى : (
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [ آل عمران : 92 ] .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي ، من طريق
الأعمش ، عن
نافع قال : مرض
ابن عمر فاشتهى عنبا - أول ما جاء العنب - فأرسلت
صفية - يعني امرأته - فاشترت عنقودا بدرهم ، فاتبع الرسول السائل ، فلما دخل به قال السائل : السائل . فقال
ابن عمر : أعطوه إياه ، فأعطوه إياه . ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودا فاتبع الرسول السائل ، فلما دخل قال السائل : السائل ، فقال
ابن عمر : أعطوه إياه ، فأعطوه إياه ، فأرسلت
صفية إلى السائل ، فقالت : والله إن عدت لا تصيب منه خيرا أبدا . ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به .
وفي الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=820407 " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح ، شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر " أي : في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه ; ولهذا قال تعالى : (
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) أما المسكين واليتيم ، فقد تقدم بيانهما وصفتهما . وأما الأسير : فقال
سعيد بن جبير والحسن والضحاك : الأسير : من أهل القبلة . وقال
ابن عباس : كان أسراؤهم يومئذ مشركين . ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى ، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء ، وهكذا قال
سعيد بن جبير nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء والحسن وقتادة .
[ ص: 289 ]
وقد
وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غيرما حديث ، حتى إنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823274 " الصلاة وما ملكت أيمانكم " .
وقال
عكرمة : هم العبيد - واختاره
ابن جرير - لعموم الآية للمسلم والمشرك .
قال
مجاهد : هو المحبوس ، أي : يطعمون لهؤلاء الطعام وهم يشتهونه ويحبونه ، قائلين بلسان الحال : (
إنما نطعمكم لوجه الله ) أي : رجاء ثواب الله ورضاه (
لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) أي : لا نطلب منكم مجازاة تكافئونا بها ولا أن تشكرونا عند الناس .
قال
مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير : أما والله ما قالوه بألسنتهم ، ولكن علم الله به من قلوبهم ، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب .
(
إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ) أي : إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في اليوم العبوس القمطرير .
قال
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس (
عبوسا ) ضيقا ، (
قمطريرا ) طويلا .
وقال
عكرمة وغيره ، عنه ، في قوله : (
يوما عبوسا قمطريرا ) أي : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران .
وقال
مجاهد : (
عبوسا ) العابس الشفتين ، (
قمطريرا ) قال : تقبيض الوجه بالبسور .
وقال
سعيد بن جبير وقتادة : تعبس فيه الوجوه من الهول ، (
قمطريرا ) تقليص الجبين وما بين العينين ، من الهول .
وقال
ابن زيد : العبوس : الشر . والقمطرير : الشديد .
وأوضح العبارات وأجلاها وأحلاها ، وأعلاها وأولاها - قول
ابن عباس ، رضي الله عنه .
قال
ابن جرير : والقمطرير هو : الشديد ; يقال : هو يوم قمطرير ويوم قماطر ، ويوم عصيب وعصبصب ، وقد اقمطر اليوم يقمطر اقمطرارا ، وذلك أشد الأيام وأطولها في البلاء والشدة ، ومنه قول بعضهم :
بني عمنا ، هل تذكرون بلاءنا ؟ عليكم إذا ما كان يوم قماطر
قال الله تعالى : (
فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا ) وهذا من باب التجانس البليغ ، (
فوقاهم الله شر ذلك اليوم ) أي : آمنهم مما خافوا منه ، (
ولقاهم نضرة ) أي : في وجوههم ، (
وسرورا ) أي : في قلوبهم . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري وقتادة nindex.php?page=showalam&ids=11873وأبو العالية nindex.php?page=showalam&ids=14354والربيع بن أنس . وهذه كقوله تعالى : (
وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ) [ عبس : 38 ، 39 ] . وذلك أن القلب إذا سر استنار الوجه ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك في حديثه الطويل :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3501442وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 290 ] إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وقالت عائشة : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه . الحديث .
وقوله : (
وجزاهم بما صبروا ) أي : بسبب صبرهم أعطاهم ونولهم وبوأهم (
جنة وحريرا ) أي : منزلا رحبا ، وعيشا رغدا ولباسا حسنا .
وروى الحافظ
nindex.php?page=showalam&ids=13359ابن عساكر في ترجمة
هشام بن سليمان الداراني ، قال : قرئ على
nindex.php?page=showalam&ids=12032أبي سليمان الداراني سورة : (
هل أتى على الإنسان ) فلما بلغ القارئ إلى قوله : (
وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ) قال بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا ، ثم أنشد :
كم قتيل بشهوة وأسير أف من مشتهي خلاف الجميل
شهوات الإنسان تورثه الذل وتلقيه في البلاء الطويل