(
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ( 116 )
إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ( 117 )
لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ( 118 )
ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ( 119 )
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( 120 )
أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ( 121 ) )
(
والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ( 122 ) )
قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة ، وهي قوله : (
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك [ لمن يشاء ] ) الآية [ النساء : 48 ] ، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة .
وقد روى
الترمذي حديث
ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة ، عن أبيه ، عن
علي رضي الله عنه أنه قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية : (
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك ) الآية ، ثم قال : حسن غريب .
[ ص: 415 ] وقوله : (
ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ) أي : فقد سلك غير الطريق الحق ، وضل عن الهدى وبعد عن الصواب ، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة ، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة .
وقوله : (
إن يدعون من دونه إلا إناثا ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن غيلان ، أنبأنا الفضل بن موسى ، أخبرنا
الحسن بن واقد ، عن
الربيع بن أنس ، عن
أبي العالية ، عن
أبي بن كعب : (
إن يدعون من دونه إلا إناثا ) قال : مع كل صنم جنية .
وحدثنا أبي ، حدثنا
محمد بن سلمة الباهلي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16379عبد العزيز بن محمد ، عن - يعني
ابن عروة - عن أبيه عن
عائشة : (
إن يدعون من دونه إلا إناثا ) قالت : أوثانا .
وروى عن
nindex.php?page=showalam&ids=12031أبي سلمة بن عبد الرحمن ، nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، وأبي مالك ، nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي ، nindex.php?page=showalam&ids=17132ومقاتل بن حيان نحو ذلك .
وقال
جويبر عن
الضحاك في [ قوله ] (
إن يدعون من دونه إلا إناثا ) قال المشركون : إن الملائكة بنات الله ، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، قال : اتخذوها أربابا وصوروهن صور الجواري ، فحكموا وقلدوا ، وقالوا : هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده ، يعنون الملائكة .
وهذا التفسير شبيه بقوله تعالى : (
أفرأيتم اللات والعزى . [ ومناة الثالثة الأخرى . ألكم الذكر وله الأنثى . تلك إذا قسمة ضيزى . إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ] ) [ النجم : 19 - 23 ] ، وقال تعالى : (
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [ أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون ] ) [ الزخرف : 19 ] ، وقال تعالى : (
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون . سبحان الله عما يصفون ] ) [ الصافات : 158 ، 159 ] .
وقال
علي بن أبي طلحة والضحاك ، عن
ابن عباس : (
إن يدعون من دونه إلا إناثا ) قال : يعني موتى .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16874مبارك - يعني ابن فضالة - عن
الحسن : (
إن يدعون من دونه إلا إناثا ) قال
الحسن : الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح ، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس . ورواه
ابن أبي حاتم nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير ، وهو غريب .
[ ص: 416 ]
وقوله : (
وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ) أي : هو الذي أمرهم بذلك وحسنه لهم وزينه ، وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر ، كما قال تعالى : (
ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان [ إنه لكم عدو مبين ] ) [ يس : 60 ] وقال تعالى إخبارا عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا : (
بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) [ سبأ : 41 ] .
وقوله : ( لعنه الله ) أي : طرده وأبعده من رحمته ، وأخرجه من جواره .
وقال : (
لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ) أي : معينا مقدرا معلوما . قال
مقاتل بن حيان : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة .
(
ولأضلنهم ) أي : عن الحق (
ولأمنينهم ) أي : أزين لهم ترك التوبة ، وأعدهم الأماني ، وآمرهم بالتسويف والتأخير ، وأغرهم من أنفسهم .
وقوله : (
ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ) قال
قتادة nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي وغيرهما : يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة .
(
ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) قال
ابن عباس : يعني بذلك
خصاء الدواب . وكذا روي عن
ابن عمر ، وأنس ، nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب ، وعكرمة ، وأبي عياض ، وأبي صالح ، وقتادة ، nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري . وقد ورد في حديث النهي عن ذلك .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن بن أبي الحسن البصري : يعني بذلك الوشم . وفي صحيح
مسلم النهي عن
الوشم في الوجه وفي لفظ :
" لعن الله من فعل ذلك " . وفي الصحيح عن
ابن مسعود أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823428لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والنامصات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ، عز وجل ، ثم قال : ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ، عز وجل ، يعني قوله : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [ الحشر : 7 ] .
وقال
ابن عباس في رواية عنه ،
ومجاهد ، وعكرمة أيضا
nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم النخعي ، والحسن ، وقتادة ، والحكم ، nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي ، والضحاك ، nindex.php?page=showalam&ids=16566وعطاء الخراساني في قوله : (
ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) يعني : دين الله ، عز وجل . وهذا كقوله تعالى : (
فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) [ الروم : 30 ] على قول من جعل ذلك أمرا ، أي : لا تبدلوا فطرة الله ، ودعوا الناس على فطرتهم ، كما ثبت في الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=821350 " كل مولود يولد على [ ص: 417 ] الفطرة ، فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل يحسون فيها من جدعاء ؟ " وفي صحيح
مسلم ، عن
عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=821828 " قال الله عز وجل : إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وقوله تعالى : (
ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ) أي : فقد خسر الدنيا والآخرة ، وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها .
وقوله : (
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) وهذا إخبار عن الواقع ; لأن
الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة ، وقد كذب وافترى في ذلك ; ولهذا قال : (
وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) كما قال تعالى مخبرا عن إبليس يوم المعاد : (
وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان [ إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل ] إن الظالمين لهم عذاب أليم ) [ إبراهيم : 22 ] .
وقوله : أي : المستحسنون له فيما وعدهم ومناهم (
مأواهم جهنم ) أي : مصيرهم ومآلهم يوم حسابهم (
ولا يجدون عنها محيصا ) أي : ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف ، ولا خلاص ولا مناص .
ثم ذكر
حال السعداء الأتقياء وما لهم في مآلهم من الكرامة التامة ، فقال : (
والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) أي : صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات ، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات (
سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) أي : يصرفونها حيث شاؤوا وأين شاؤوا (
خالدين فيها أبدا ) أي : بلا زوال ولا انتقال (
وعد الله حقا ) أي : هذا وعد من الله ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة ، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر ، وهو قوله : (
حقا ) ثم قال (
ومن أصدق من الله قيلا ) أي : لا أحد أصدق منه قولا وخبرا ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823429 " إن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " .