(
قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ( 59 )
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ( 60 )
وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون ( 61 )
وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ( 62 )
لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ( 63 ) )
يقول تعالى : قل يا
محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من
أهل الكتاب : (
هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل ) أي : هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة ، فيكون الاستثناء منقطعا كما في قوله : (
وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) [ البروج : 8 ] وكقوله : (
وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) [ التوبة : 74 ] وفي الحديث المتفق عليه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823708 " ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله " .
وقوله : (
وأن أكثركم فاسقون ) معطوف على (
أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل ) أي : وآمنا بأن أكثركم فاسقون ، أي : خارجون عن الطريق المستقيم .
ثم قال : (
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ) أي : هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات القصيرة ، فقوله : (
من لعنه الله ) أي : أبعده من رحمته (
وغضب عليه ) أي : غضبا لا يرضى بعده أبدا (
وجعل منهم القردة والخنازير ) كما تقدم بيانه في سورة البقرة . وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف [ إن شاء الله تعالى ]
وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري : عن
علقمة بن مرثد ، عن
المغيرة بن عبد الله ، عن
المعرور بن سويد nindex.php?page=hadith&LINKID=824494عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير ، أهي مما مسخ الله [ تعالى ] ؟ فقال : إن الله لم يهلك قوما - أو قال : لم يمسخ قوما - فيجعل لهم نسلا ولا عقبا وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك " . [ ص: 143 ]
وقد رواه
مسلم من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري ومسعر كلاهما ، عن
مغيرة بن عبد الله اليشكري به .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14724أبو داود الطيالسي : حدثنا
داود بن أبي الفرات ، عن
محمد بن زيد ، عن
أبي الأعين العبدي nindex.php?page=hadith&LINKID=823709عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير ، أهي من نسل اليهود؟ فقال : " لا ، إن الله لم يلعن قوما فيمسخهم فكان لهم نسل ، ولكن هذا خلق كان ، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم ، جعلهم مثلهم " .
ورواه
أحمد من حديث
داود بن أبي الفرات به .
وقال
ابن مردويه : حدثنا
عبد الباقي ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12265أحمد بن صالح ، حدثنا
الحسن بن محبوب ، حدثنا
عبد العزيز بن المختار ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15854داود بن أبي هند ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823710 " الحيات مسخ الجن ، كما مسخت القردة والخنازير " . هذا حديث غريب جدا .
وقوله : (
وعبد الطاغوت ) وقرئ (
وعبد الطاغوت ) على أنه فعل ماض ، " والطاغوت " منصوب به ، أي : وجعل منهم من عبد الطاغوت . وقرئ : (
وعبد الطاغوت ) بالإضافة على أن المعنى : وجعل منهم خدم الطاغوت ، أي : خدامه وعبيده . وقرئ (
وعبد الطاغوت ) على أنه جمع الجمع : عبد وعبيد وعبد ، مثل ثمار وثمر . حكاها
ابن جرير ، عن
الأعمش . وحكي عن
بريدة الأسلمي أنه كان يقرؤها : " وعابد الطاغوت " ، وعن
أبي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود : " وعبدوا " ، وحكى
ابن جرير ، عن
أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤها : (
وعبد الطاغوت ) على أنه مفعول ما لم يسم فاعله ، ثم استبعد معناها . والظاهر أنه لا بعد في ذلك ; لأن هذا من باب التعريض بهم ، أي : وقد عبدت الطاغوت فيكم ، وكنتم أنتم الذين تعاطوا ذلك .
وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا ، والذي هو
توحيد الله وإفراده بالعبادات دون [ ما ] سواه ، كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟ ولهذا قال : (
أولئك شر مكانا ) أي : مما تظنون بنا (
وأضل عن سواء السبيل )
[ ص: 144 ]
وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة ، كقوله : (
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) [ الفرقان : 24 ]
وقوله : (
وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ) وهذه صفة المنافقين منهم ، أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر ; ولهذا قال : (
وقد دخلوا [ بالكفر وهم قد خرجوا به ] ) أي عندك يا
محمد (
بالكفر ) أي : مستصحبين الكفر في قلوبهم ، ثم خرجوا وهو كامن فيها ، لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم ، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر ; ولهذا قال : (
وهم [ قد ] خرجوا به ) فخصهم به دون غيرهم .
وقوله : (
والله أعلم بما كانوا يكتمون ) أي : والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليهم ضمائرهم وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك ، وتزينوا بما ليس فيهم ، فإن عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء .
وقوله : (
وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت ) أي : يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس ، وأكلهم أموالهم بالباطل (
لبئس ما كانوا يعملون ) أي : لبئس العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم .
قوله : (
لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ) يعني : هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك . والربانيون وهم : العلماء العمال أرباب الولايات عليهم ، والأحبار : وهم العلماء فقط .
(
لبئس ما كانوا يصنعون ) وقال
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : يعني الربانيين ، أنهم : بئس ما كانوا يصنعون . يعني : في تركهم ذلك .
وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال لهؤلاء حين لم ينهوا ، ولهؤلاء حين علموا . قال : وذلك الأركان . قال : " ويعملون " و " يصنعون " واحد . رواه
ابن أبي حاتم .
وقال
ابن جرير : حدثنا
أبو كريب ، حدثنا
ابن عطية ، حدثنا
قيس ، عن
العلاء بن المسيب ، عن
خالد بن دينار عن
ابن عباس قال : ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية : (
لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ) قال : كذا قرأ .
وكذا قال
الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها : إنا لا ننهى . رواه
ابن جرير .
وقال
ابن أبي حاتم : ذكره
يونس بن حبيب ، حدثنا
أبو داود ، حدثنا
محمد بن مسلم ، عن
أبي الوضاح ، حدثنا
ثابت بن سعيد الهمداني قال : رأيته
بالري فحدث عن
nindex.php?page=showalam&ids=17344يحيى بن يعمر قال : خطب
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنما هلك من كان قبلكم
[ ص: 145 ] بركوبهم المعاصي ، ولم ينههم الربانيون والأحبار ، فلما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار أخذتهم العقوبات . فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم ، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17376يزيد بن هارون أنبأنا
شريك ، عن
أبي إسحاق ، عن
المنذر بن جرير عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823711 " ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع ، لم يغيروا ، إلا أصابهم الله منه بعذاب " .
تفرد به
أحمد من هذا الوجه .
ورواه
أبو داود ، عن
مسدد ، عن
أبي الأحوص ، عن
أبي إسحاق ، عن
المنذر بن جرير ، عن
جرير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=823712 " ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، يقدرون أن يغيروا عليه ، فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا " .
وقد رواه
ابن ماجه ، عن
علي بن محمد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
إسرائيل ، عن
أبي إسحاق ، عن
عبيد الله بن جرير عن أبيه ، به .
قال
الحافظ المزي : وهكذا رواه
شعبة ، عن
إسحاق به .