(
ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( 87 )
وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( 88 ) )
قال
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : نزلت هذه الآية في
رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليهم ، فذكر لهم ذلك : فقالوا : نعم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني " . رواه
ابن أبي حاتم .
وروى
ابن مردويه من طريق
العوفي ، عن
ابن عباس نحو ذلك .
وفي الصحيحين
nindex.php?page=hadith&LINKID=824499عن عائشة رضي الله عنها ; أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر ، فقال بعضهم : لا آكل اللحم . وقال بعضهم : لا أتزوج النساء . وقال بعضهم : لا أنام على فراش . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ، لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12276أحمد بن عصام الأنصاري ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12063أبو عاصم الضحاك بن مخلد ، عن
عثمان - يعني ابن سعد - ، أخبرني
عكرمة عن
ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء ، وإني حرمت علي اللحم ، فنزلت (
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم )
وكذا رواه
الترمذي nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير جميعا ، عن
عمرو بن علي الفلاس ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12063أبي عاصم النبيل به .
[ ص: 170 ] وقال : حسن غريب ، وقد روي من وجه آخر مرسلا وروي موقوفا على
ابن عباس فالله أعلم .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري nindex.php?page=showalam&ids=17277ووكيع ، عن
إسماعيل بن أبي خالد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16834قيس بن أبي حازم nindex.php?page=hadith&LINKID=823737عن nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس معنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ] ) .
أخرجاه من حديث
إسماعيل . وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة والله أعلم .
وقال
الأعمش ، عن
إبراهيم ، عن
همام بن الحارث عن
nindex.php?page=showalam&ids=12171عمرو بن شرحبيل قال : جاء
معقل بن مقرن إلى
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود فقال : إني حرمت فراشي . فتلا هذه الآية : (
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ] ) .
وقال
الثوري ، عن
منصور ، عن
أبي الضحى عن
مسروق قال : كنا عند
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود فجيء بضرع ، فتنحى رجل ، فقال [ له ]
عبد الله : ادن . فقال : إني حرمت أن آكله . فقال
عبد الله : ادن فاطعم ، وكفر عن يمينك وتلا هذه الآية : (
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) الآية .
رواهن
ابن أبي حاتم . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم هذا الأثر الأخير في مستدركه ، من طريق
إسحاق ابن راهويه ، عن
جرير ، عن
منصور به . ثم قال : على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
ثم قال
ابن أبي حاتم : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17418يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا
ابن وهب ، أخبرني
nindex.php?page=showalam&ids=17241هشام بن سعد أن
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم حدثه : أن
عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله ، وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له ، فقال لامرأته : حبست ضيفي من أجلي ، هو علي حرام . فقالت امرأته : هو علي حرام . وقال الضيف : هو علي حرام . فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا باسم الله . ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الذي كان منهم ، ثم أنزل الله : (
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) وهذا أثر منقطع .
وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في قصة
الصديق [ رضي الله عنه ] مع أضيافه شبيه بهذا وفيه
[ ص: 171 ] وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء
nindex.php?page=showalam&ids=13790كالشافعي وغيره إلى أن من
حرم مأكلا أو ملبسا أو شيئا ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه ، ولا كفارة عليه أيضا ; ولقوله تعالى : (
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) ; ولأن الذي حرم اللحم على نفسه - كما في الحديث المتقدم - لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة . وذهب آخرون منهم
الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلا أو مشربا أو شيئا من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين ، كما إذا التزم تركه باليمين فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاما له بما التزمه ، كما أفتى بذلك
ابن عباس وكما في قوله تعالى : (
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم ) [ التحريم : 1 ] . ثم قال (
قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) الآية [ التحريم : 2 ] . وكذلك هاهنا لما ذكر هذا الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين ، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير ، والله أعلم .
وقال
ابن جرير : حدثنا
القاسم ، حدثنا
الحسين ، حدثنا
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد قال : أراد رجال ، منهم
عثمان بن مظعون nindex.php?page=showalam&ids=12وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : (
واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
عكرمة : أن
عثمان بن مظعون nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=53والمقداد بن الأسود nindex.php?page=showalam&ids=267وسالما مولى أبي حذيفة في أصحاب تبتلوا ، فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من
بني إسرائيل وهموا بالإخصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت : (
ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) يقول : لا تسيروا بغير سنة المسلمين يريد : ما حرموا من النساء والطعام واللباس ، وما أجمعوا عليه من قيام الليل وصيام النهار ، وما هموا به من الإخصاء ، فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=825085 " إن لأنفسكم حقا ، وإن لأعينكم حقا ، صوموا وأفطروا ، وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا " . فقالوا : اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت .
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة ، ولها شاهد في الصحيحين من رواية
عائشة أم المؤمنين ، كما تقدم ذلك ، ولله الحمد والمنة .
وقال
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في قوله : (
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) وذلك أن
nindex.php?page=hadith&LINKID=825086رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف ، فقال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، كانوا عشرة منهم nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=5559وعثمان بن مظعون : ما خفنا إن لم نحدث عملا فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم ، فنحن نحرم . فحرم [ ص: 172 ] بعضهم أن يأكل اللحم والودك ، وأن يأكل بنهار ، وحرم بعضهم النوم ، وحرم بعضهم النساء ، فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء وكان لا يدنو من أهله ولا تدنو منه . فأتت امرأته عائشة رضي الله عنها ، وكان يقال لها : الحولاء فقالت لها عائشة ومن عندها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : ما بالك يا حولاء متغيرة اللون ، لا تمتشطين ، لا تتطيبين؟ قالت : وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع علي زوجي وما رفع عني ثوبا ، منذ كذا وكذا . قال : فجعلن يضحكن من كلامها ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن ، فقال : " ما يضحككن؟ " قالت : يا رسول الله ، إن الحولاء سألتها عن أمرها ، فقالت : ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا . فأرسل إليه فدعاه ، فقال : " ما لك يا عثمان ؟ " قال : إني تركته لله ، لكي أتخلى للعبادة ، وقص عليه أمره ، وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك " . فقال : يا رسول الله ، إني صائم . فقال : " أفطر " . فأفطر ، وأتى أهله ، فرجعت الحولاء إلى عائشة [ زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ] وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت ، فضحكت عائشة وقالت : ما لك يا حولاء؟ فقالت : إنه أتاها أمس ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم؟ ألا إني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء ، فمن رغب عني فليس مني " . فنزلت : (
ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ) يقول لعثمان " لا تجب نفسك ، فإن هذا هو الاعتداء " . وأمرهم أن يكفروا عن أيمانهم ، فقال : (
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) رواه
ابن جرير .
وقوله : (
ولا تعتدوا ) يحتمل أن يكون المراد منه : ولا تبالغوا في التضييق على أنفسكم في تحريم المباحات عليكم ، كما قاله من قاله من السلف . ويحتمل أن يكون المراد : كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال ، بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم ، ولا تجاوزوا الحد فيه ، كما قال تعالى : (
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) [ الأعراف : 31 ] ) وقال : (
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [ الفرقان : 67 ] فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه ، لا إفراط ولا تفريط ; ولهذا قال : (
لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )
ثم قال : (
وكلوا مما رزقكم الله حلالا ) أي : في حال كونه حلالا طيبا (
واتقوا الله ) أي : في جميع أموركم ، واتبعوا طاعته ورضوانه ، واتركوا مخالفته وعصيانه (
الذي أنتم به مؤمنون )