(
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( 33 )
ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين ( 34 )
وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ( 35 ) )
(
إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ( 36 ) )
يقول تعالى مسليا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه : (
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ) أي : قد أحطنا علما بتكذيب قومك لك ، وحزنك وتأسفك عليهم (
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) [ فاطر : 8 ] كما قال تعالى في الآية الأخرى : (
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) [ الشعراء : 3 ] (
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) [ الكهف : 7 ]
وقوله : (
فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) أي : لا يتهمونك بالكذب في
[ ص: 251 ] نفس الأمر (
ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) أي : ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري ، عن
أبي إسحاق ، عن
ناجية بن كعب ، عن
علي [ رضي الله عنه ] قال : قال
أبو جهل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب ما جئت به ، فأنزل الله : (
فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون )
ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم ، من طريق
إسرائيل ، عن
أبي إسحاق ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا
محمد بن الوزير الواسطي بمكة ، حدثنا
بشر بن المبشر الواسطي ، عن
سلام بن مسكين ، عن
أبي يزيد المدني ; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي
أبا جهل فصافحه ، قال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ ؟ ! فقال : والله إني أعلم إنه لنبي ، ولكن متى كنا
لبني عبد مناف تبعا؟ ! وتلا
أبو يزيد : (
فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون )
قال
أبو صالح وقتادة : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون .
وذكر
محمد بن إسحاق ، عن
الزهري ، في قصة
أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل ، هو
nindex.php?page=showalam&ids=12026وأبو سفيان صخر بن حرب والأخنس بن شريق ، ولا يشعر واحد منهم بالآخر . فاستمعوها إلى الصباح ، فلما هجم الصبح تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال كل منهم للآخر : ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء له ثم تعاهدوا ألا يعودوا ، لما يخافون من علم شباب
قريش بهم ، لئلا يفتتنوا بمجيئهم فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظنا أن صاحبيه لا يجيئان ، لما تقدم من العهود ، فلما أجمعوا جمعتهم الطريق ، فتلاوموا ، ثم تعاهدوا ألا يعودوا . فلما كانت الليلة الثالثة جاؤوا أيضا ، فلما أصبحوا تعاهدوا ألا يعودوا لمثلها [ ثم تفرقوا ]
فلما أصبح
الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى
nindex.php?page=showalam&ids=12026أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا
أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من
محمد ؟ قال : يا
أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال
الأخنس : وأنا والذي حلفت به .
ثم خرج من عنده حتى أتى
أبا جهل ، فدخل عليه في بيته فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من
محمد ؟ قال : ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن
وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا
[ ص: 252 ] وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ، قال : فقام عنه
الأخنس وتركه
وروى
ابن جرير ، من طريق
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، في قوله : (
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) لما كان يوم بدر قال
الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا
بني زهرة ، إن
محمدا ابن أختكم ، فأنتم أحق من كف عنه . فإنه إن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته قفوا هاهنا حتى ألقى
أبا الحكم ، فإن غلب
محمد رجعتم سالمين ، وإن غلب
محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا . فيومئذ سمي
الأخنس : وكان اسمه " أبي " فالتقى
الأخنس وأبو جهل ، فخلا
الأخنس بأبي جهل فقال : يا
أبا الحكم ، أخبرني عن
محمد : أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا من
قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا . فقال
أبو جهل : ويحك! والله إن
محمدا لصادق ، وما كذب
محمد قط ، ولكن إذا ذهبت
بنو قصي باللواء والسقاية والحجاب والنبوة ، فماذا يكون لسائر
قريش ؟ فذلك قوله : (
فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) فآيات الله :
محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله (
ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ) هذه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعزية له فيمن كذبه من قومه ، وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ووعد له بالنصر كما نصروا ، وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة ، بعد ما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ ، ثم جاءهم النصر في الدنيا ، كما لهم النصر في الآخرة ; ولهذا قال : (
ولا مبدل لكلمات الله ) أي : التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين ، كما قال : (
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) [ الصافات : 171 - 173 ] ، وقال تعالى : (
كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) [ المجادلة : 21 ] .
وقوله : (
ولقد جاءك من نبإ المرسلين ) أي : من خبرهم كيف نصروا وأيدوا على من كذبهم من قومهم ، فلك فيهم أسوة وبهم قدوة .
ثم قال تعالى : (
وإن كان كبر عليك إعراضهم ) أي : إن كان شق عليك إعراضهم عنك (
فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء ) قال
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : النفق : السرب ، فتذهب فيه (
فتأتيهم بآية ) أو تجعل لك سلما في السماء فتصعد فيه فتأتيهم بآية أفضل مما آتيتهم به ، فافعل .
وكذا قال
قتادة nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي ، وغيرهما .
[ ص: 253 ]
وقوله : (
ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ) كما قال تعالى : (
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا [ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ] ) [ يونس : 99 ] ، قال
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس في قوله : (
ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبر الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول .
وقوله : (
إنما يستجيب الذين يسمعون ) أي : إنما يستجيب لدعائك يا
محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه ، كقوله : (
لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ) [ يس : 70 ] ، وقوله (
والموتى يبعثهم الله ) يعني : بذلك الكفار ; لأنهم موتى القلوب ، فشبههم الله بأموات الأجساد فقال : (
والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ) وهذا من باب التهكم بهم ، والازدراء عليهم .