(
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ( 189 )
فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ( 190 ) )
ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من
آدم ، عليه السلام ، وأنه خلق منه زوجه
حواء ، ثم انتشر الناس منهما ، كما قال تعالى : (
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ الحجرات : 13 ] وقال تعالى : (
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها [ وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ] ) الآية [ النساء : 1 ] .
[ ص: 525 ] وقال في هذه الآية الكريمة : (
وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) أي : ليألفها ويسكن بها ، كما قال تعالى : (
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) [ الروم : 21 ] فلا ألفة بين زوجين أعظم مما بين الزوجين ; ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه .
(
فلما تغشاها ) أي : وطئها (
حملت حملا خفيفا ) وذلك أول الحمل ، لا تجد المرأة له ألما ، إنما هي النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة .
وقوله : (
فمرت به ) قال
مجاهد : استمرت بحمله . وروي عن
الحسن ، nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم النخعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي ، نحوه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17188ميمون بن مهران : عن أبيه استخفته .
وقال
أيوب : سألت
الحسن عن قوله : ( فمرت به ) قال : لو كنت رجلا عربيا لعرفت ما هي . إنما هي : فاستمرت به .
وقال
قتادة : ( فمرت به ) واستبان حملها .
وقال
ابن جرير : [ معناه ] استمرت بالماء ، قامت به وقعدت .
وقال
العوفي ، عن
ابن عباس : استمرت به ، فشكت : أحملت أم لا .
(
فلما أثقلت ) أي : صارت ذات ثقل بحملها .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : كبر الولد في بطنها .
(
دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا ) أي : بشرا سويا ، كما قال
الضحاك ، عن
ابن عباس : أشفقا أن يكون بهيمة .
وكذلك قال
أبو البختري وأبو مالك : أشفقا ألا يكون إنسانا .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : لئن آتيتنا غلاما .
(
لنكونن من الشاكرين . فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ) ذكر المفسرون هاهنا آثارا وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها ، ثم نتبع ذلك بيان الصحيح في ذلك ، إن شاء الله وبه الثقة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد في مسنده : حدثنا
عبد الصمد ، حدثنا
عمر بن إبراهيم ، حدثنا
قتادة ، عن
الحسن ، عن
سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=821448ولما ولدت حواء طاف بها إبليس - وكان لا يعيش لها ولد - فقال : سميه عبد الحارث ; فإنه يعيش ، فسمته عبد الحارث ، فعاش وكان ذلك من وحي [ ص: 526 ] الشيطان وأمره " .
وهكذا رواه
ابن جرير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار بندار ، عن
عبد الصمد بن عبد الوارث ، به .
ورواه
الترمذي في تفسيره هذه الآية عن
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى ، عن
عبد الصمد ، به وقال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث
عمر بن إبراهيم ، عن
قتادة ، ورواه بعضهم عن
عبد الصمد ، ولم يرفعه .
ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم في مستدركه ، من حديث
عبد الصمد مرفوعا ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
ورواه الإمام
أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12013أبي زرعة الرازي ، عن
هلال بن فياض ، عن
عمر بن إبراهيم ، به مرفوعا .
وكذا رواه الحافظ
أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث
شاذ بن فياض ، عن
عمر بن إبراهيم ، به مرفوعا
قلت : "
وشاذ " [ هذا ] هو : هلال ، وشاذ لقبه . والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن
عمر بن إبراهيم هذا هو البصري ، وقد وثقه
ابن معين ، ولكن قال
nindex.php?page=showalam&ids=11970أبو حاتم الرازي : لا يحتج به . ولكن رواه
ابن مردويه من حديث
المعتمر ، عن أبيه ، عن
الحسن ، عن
سمرة مرفوعا فالله أعلم .
الثاني : أنه قد روي من قول
سمرة نفسه ، ليس مرفوعا ، كما قال
ابن جرير : حدثنا
ابن عبد الأعلى ، حدثنا
المعتمر ، عن أبيه . وحدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية عن
سليمان التيمي ، عن
أبي العلاء بن الشخير ، عن
سمرة بن جندب ، قال : سمى
آدم ابنه "
عبد الحارث " .
الثالث : أن
الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا ، فلو كان هذا عنده عن
سمرة مرفوعا ، لما عدل عنه .
قال
ابن جرير : حدثنا
ابن وكيع ، حدثنا
سهل بن يوسف ، عن
عمرو ، عن
الحسن : (
جعلا له شركاء فيما آتاهما ) قال : كان هذا في بعض أهل الملل ، ولم يكن
بآدم
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر قال : قال
الحسن : عنى بها ذرية
آدم ، ومن أشرك منهم بعده - يعني : [ قوله ] (
جعلا له شركاء فيما آتاهما )
[ ص: 527 ] وحدثنا
بشر حدثنا
يزيد ، حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قال : كان
الحسن يقول : هم
اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولادا ، فهودوا ونصروا
وهذه أسانيد صحيحة عن
الحسن ، رحمه الله ، أنه فسر الآية بذلك ، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية ، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما عدل عنه هو ولا غيره ، ولا سيما مع تقواه لله وورعه ، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب ، من آمن منهم ، مثل :
كعب أو
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه وغيرهما ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله [ تعالى ] إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع ، والله أعلم .
فأما الآثار فقال
محمد بن إسحاق بن يسار ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15855داود بن الحصين ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس قال : كانت
حواء تلد
لآدم ، عليه السلام ، أولادا فيعبدهم لله ويسميه : " عبد الله " و " عبيد الله " ، ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت فأتاها إبليس وآدم فقال : إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش قال : فولدت له رجلا فسماه " عبد الحارث " ، ففيه أنزل الله ، يقول الله : (
هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) إلى قوله : (
جعلا له شركاء فيما آتاهما ) إلى آخر الآية .
وقال
العوفي ، عن
ابن عباس قوله في
آدم : (
هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) إلى قوله : ( فمرت به ) شكت أحبلت أم لا ؟ (
فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ) فأتاهما الشيطان ، فقال : هل تدريان ما يولد لكما ؟ أم هل تدريان ما يكون ؟ أبهيمة يكون أم لا ؟ وزين لهما الباطل ; إنه غوي مبين ، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا ، فقال لهما الشيطان : إنكما إن لم تسمياه بي ، لم يخرج سويا ، ومات كما مات الأولان فسميا ولدهما " عبد الحارث " ، فذلك قول الله [ تعالى ] (
فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ) الآية .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك ، عن
شريك ، عن
خصيف ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس في قوله : (
فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ) قال : قال الله تعالى : (
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها )
آدم (
حملت [ حملا خفيفا ] ) فأتاهما إبليس - لعنه الله - فقال : إنى صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعني أو لأجعلن قرني له أيل فيخرج من بطنك فيشقه ، ولأفعلن ولأفعلن - يخوفهما - فسمياه " عبد الحارث " فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتا ، ثم حملت الثانية ، فأتاهما أيضا فقال : أنا صاحبكما الذي فعلت ما فعلت ، لتفعلن أو لأفعلن - يخوفهما - فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتا ، ثم حملت الثالثة فأتاهما أيضا ، فذكر لهما ، فأدركهما حب الولد ، فسمياه " عبد الحارث " ، فذلك قوله : (
جعلا له شركاء فيما آتاهما ) رواه
ابن أبي حاتم .
[ ص: 528 ] وقد تلقى هذا الأثر عن
ابن عباس جماعة من أصحابه ،
كمجاهد ، nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ،
وعكرمة . ومن الطبقة الثانية :
قتادة ، nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي ، وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف ، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة ، وكأنه - والله أعلم - أصله مأخوذ من أهل الكتاب ، فإن
ابن عباس رواه عن
أبي بن كعب ، كما رواه
ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا
أبو الجماهر حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15991سعيد - يعني ابن بشير - عن
عقبة ، عن
قتادة ، عن
مجاهد ، عن
ابن عباس ، عن
أبي بن كعب قال : لما حملت
حواء أتاها الشيطان ، فقال لها : أتطيعيني ويسلم لك ولدك ؟ سميه " عبد الحارث " ، فلم تفعل ، فولدت فمات ، ثم حملت فقال لها مثل ذلك ، فلم تفعل . ثم حملت الثالث فجاءها فقال : إن تطيعيني يسلم ، وإلا فإنه يكون بهيمة ، فهيبهما فأطاعا .
وهذه الآثار يظهر عليها - والله أعلم - أنها من آثار أهل الكتاب ، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=821449إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " ، ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام : فمنها : ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله . ومنها ما علمنا كذبه ، بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا . ومنها : ما هو مسكوت عنه ، فهو المأذون في روايته ، بقوله ، عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=821450حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " وهو الذي لا يصدق ولا يكذب ، لقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=821451فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " . وهذا الأثر : [ هل ] هو من القسم الثاني أو الثالث ؟ فيه نظر . فأما من حدث به من صحابي أو تابعي ، فإنه يراه من القسم الثالث ، وأما نحن فعلى مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري ، رحمه الله ، في هذا [ والله أعلم ] وأنه ليس المراد من هذا السياق
آدم وحواء ، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ; ولهذا قال الله : (
فتعالى الله عما يشركون ) ثم قال :