القول في
تأويل قوله تعالى : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( 107 ) )
قال
أبو جعفر : إن قال لنا قائل : أولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله على كل شيء قدير ، وأنه له ملك السماوات والأرض ، حتى قيل له ذلك؟
[ ص: 485 ]
قيل : بلى! فقد كان بعضهم يقول : إنما ذلك من الله - جل ثناؤه - خبر عن أن
محمدا قد علم ذلك ، ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير ، كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا ، فيقول أحدهما لصاحبه : "ألم أكرمك؟ ألم أتفضل عليك؟" بمعنى إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه ، يريد : أليس قد أكرمتك؟ أليس قد تفضلت عليك؟ بمعنى قد علمت ذلك .
قال
أبو جعفر : وهذا لا وجه له عندنا . وذلك أن قوله جل ثناؤه : ( ألم تعلم ) ، إنما معناه : أما علمت؟ وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام ، وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات ، وإما بمعنى النفي ، فأما بمعنى الإثبات ، فذلك غير معروف في كلام العرب ، ولا سيما إذا دخلت على حروف الجحد . ولكن ذلك عندي ، وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنما هو معني به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه : ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ) . والذي يدل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه : (
وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) ، فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم ، وقد ابتدأ أولها بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (
ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) ؛ لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه . وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح : أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره ، وعلى وجه الخطاب لواحد وهو يقصد به جماعة غيره ، أو جماعة والمخاطب به أحدهم - وعلى وجه الخطاب للجماعة ، والمقصود به أحدهم . من ذلك قول الله جل ثناؤه : (
يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ) [ الأحزاب : 1 - 2 ] ، فرجع إلى خطاب الجماعة ، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ونظير ذلك قول
nindex.php?page=showalam&ids=15102الكميت بن زيد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :
[ ص: 486 ] إلى السراج المنير أحمد ، لا يعدلني رغبة ولا رهب عنه إلى غيره ولو رفع الن
اس إلى العيون وارتقبوا وقيل : أفرطت! بل قصدت ولو
عنفني القائلون أو ثلبوا لج بتفضيلك اللسان ، ولو
أكثر فيك الضجاج واللجب أنت المصفى المحض المهذب في الن
سبة ، إن نص قومك النسب
فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قاصد بذلك أهل بيته ، فكنى عن وصفهم ومدحهم ، بذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن بني أمية ، بالقائلين المعنفين؛ لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبي صلى الله عليه وسلم وتفضيله ، ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله .
[ ص: 487 ]
وكما قال
nindex.php?page=showalam&ids=15654جميل بن معمر :
ألا إن جيراني العشية رائح دعتهم دواع من هوى ومنادح
فقال : "ألا إن جيراني العشية" فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه ، ثم قال : "رائح" ، لأن قصده - في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه - الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم ، وكما قال جميل أيضا في كلمته الأخرى :
خليلي فيما عشتما ، هل رأيتما قتيلا بكى من حب قاتله قبلي؟
وهو يريد قاتلته ، لأنه إنما يصف امرأة ، فكنى باسم الرجل عنها ، وهو يعنيها . فكذلك قوله : (
ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) ، وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه مقصود به قصد أصحابه . وذلك بين بدلالة قوله : (
وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل ) الآيات الثلاث بعدها - على أن ذلك كذلك .
أما قوله : (
له ملك السماوات والأرض ) ولم يقل : ملك السماوات ، فإنه عنى بذلك "ملك" السلطان والمملكة دون "الملك" . والعرب إذا أرادت الخبر عن "المملكة" التي هي مملكة سلطان ، قالت : "ملك الله الخلق ملكا" ، وإذا أرادت الخبر عن "الملك" قالت : "ملك فلان هذا الشيء فهو يملكه ملكا وملكة وملكا .
فتأويل الآية إذا : ألم تعلم يا
محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري ، أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء ، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وأنهى عما أشاء ، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء ، وأقر منها ما أشاء؟
وهذا الخبر وإن كان من الله - عز وجل - خطابا لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته ، فإنه منه - جل ثناؤه - تكذيب
لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة
عيسى ، وأنكروا
محمدا صلى الله عليه وسلم ، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة ، فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما ، فإن الخلق أهل مملكته وطاعته ، عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما شاء ونهيهم عما شاء ، ونسخ ما شاء ، وإقرار ما شاء ، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه : انقادوا لأمري ، وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك فلا أنسخ ، من أحكامي وحدودي وفرائضي ، ولا يهولنكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي ، فإنه لا قيم بأمركم سواي ، ولا ناصر لكم غيري ، وأنا المنفرد بولايتكم ، والدفاع عنكم ، والمتوحد بنصرتكم بعزي وسلطاني وقوتي على من ناوأكم وحادكم ، ونصب حرب العداوة بينه وبينكم ، حتى أعلي حجتكم ،
[ ص: 489 ] وأجعلها عليهم لكم .
و"الولي" معناه "فعيل" من قول القائل : "وليت أمر فلان" ، إذا صرت قيما به ، "فأنا أليه ، فهو وليه" وقيمه . ومن ذلك قيل : "فلان ولي عهد المسلمين" ، يعني به : القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين .
وأما "النصير" فإنه "فعيل" من قولك : "نصرتك أنصرك ، فأنا ناصرك ونصيرك" ، وهو المؤيد والمقوي .
وأما معنى قوله : ( من دون الله ) ، فإنه سوى الله ، وبعد الله ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
يا نفس ما لك دون الله من واقي وما على حدثان الدهر من باقي
يريد : ما لك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره .
فمعنى الكلام إذا : وليس لكم ، أيها المؤمنون ، بعد الله من قيم بأمركم ، ولا نصير فيؤيدكم ويقويكم ، فيعينكم على أعدائكم .