[ ص: 252 ] (
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ( 78 )
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ( 79 ) )
قوله عز وجل : ( أينما تكونوا يدرككم الموت ) أي : ينزل بكم الموت ، نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى
أحد : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فرد الله عليهم بقوله : (
أينما تكونوا يدرككم الموت ) ، (
ولو كنتم في بروج مشيدة ) والبروج : الحصون والقلاع ، والمشيدة : المرفوعة المطولة ، قال
قتادة : معناه في قصور محصنة ، وقال
عكرمة : مجصصة ، والشيد : الجص ، (
وإن تصبهم حسنة ) نزلت في
اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه .
قال الله تعالى : (
وإن تصبهم ) يعني :
اليهود ( حسنة ) أي خصب ورخص في السعر ، (
يقولوا هذه من عند الله ) لنا ، (
وإن تصبهم سيئة ) يعني : الجدب وغلاء الأسعار (
يقولوا هذه من عندك ) أي : من شؤم
محمد وأصحابه ، وقيل : المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم
بدر ، وبالسيئة القتل والهزيمة يوم
أحد ، يقولوا هذه من عندك أي : أنت الذي حملتنا عليه يا
محمد ، فعلى هذا يكون هذا من قول المنافقين ، ( قل ) لهم يا
محمد ، (
كل من عند الله ) أي :
الحسنة والسيئة كلها من عند الله ، ثم عيرهم بالجهل فقال : (
فمال هؤلاء القوم ) يعني : المنافقين
واليهود ، (
لا يكادون يفقهون حديثا ) أي : لا يفقهون قولا وقيل : الحديث هاهنا هو القرآن أي : لا يفقهون معاني القرآن .
قوله : (
فمال هؤلاء ) قال
الفراء : كثرت في الكلام هذه الكلمة حتى توهموا أن اللام متصلة بها وأنهما حرف واحد ، ففصلوا اللام مما بعدها في بعضه ، ووصلوها في بعضه ، والاتصال القراءة ، ولا يجوز الوقف على اللام لأنها لام خافضة .
قوله عز وجل : (
ما أصابك من حسنة ) خير ونعمة (
فمن الله وما أصابك من سيئة ) بلية أو أمر تكرهه ، (
فمن نفسك ) أي : بذنوبك ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ، نظيره قوله تعالى :
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ( الشورى - 30 ) ويتعلق أهل القدر بظاهر هذه الآية ،
[ ص: 253 ] فقالوا : نفى الله تعالى السيئة عن نفسه ونسبها إلى العبد فقال : (
وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) ولا متعلق لهم فيه ، لأنه ليس المراد من الآية حسنات الكسب ولا سيآته من الطاعات والمعاصي ، بل المراد منهم ما يصيبهم من النعم والمحن ، وذلك ليس من فعلهم بدليل أنه نسبها إلى غيرهم ولم ينسبها إليهم ، فقال : (
ما أصابك ) ولا يقال في الطاعة والمعصية أصابني ، إنما يقال : أصبتها ، ويقال في النعم : أصابني ، بدليل أنه لم يذكر عليه ثوابا ولا عقابا ، فهو كقوله تعالى (
فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ) ( الأعراف - 131 ) ، ولما ذكر حسنات الكسب وسيئاته نسبها إليه ، ووعد عليها الثواب والعقاب ، فقال (
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ) ( الأنعام - 160 ) .
وقيل : معنى الآية : ما أصابك من حسنة من النصر والظفر يوم بدر فمن الله ، أي : من فضل الله ، وما أصابك من سيئة من القتل والهزيمة يوم
أحد فمن نفسك ، أي : بذنب نفسك من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل كيف وجه الجمع بين قوله (
قل كل من عند الله ) وبين قوله (
فمن نفسك ) قيل : قوله (
قل كل من عند الله ) أي : الخصب والجدب والنصر والهزيمة كلها من عند الله ، وقوله : (
فمن نفسك ) أي : ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك ، كما قال الله تعالى :
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ( الشورى - 30 ) يدل عليه ما روى
مجاهد عن
ابن عباس رضي الله عنهما : أنه قرأ (
وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) وأنا كتبتها عليك .
وقال بعضهم : هذه الآية متصلة بما قبلها ، والقول فيه مضمر تقديره : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ، يقولون : (
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك (
قل كل من عند الله ) ( وأرسلناك ) يا
محمد (
للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ) على إرسالك وصدقك ، وقيل : وكفى بالله شهيدا على أن الحسنة والسيئة كلها من الله تعالى .