(
ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ( 59 )
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ( 60 ) .
(
ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله ) أي : قنعوا بما قسم لهم الله ورسوله (
وقالوا حسبنا الله ) كافينا الله ، (
سيؤتينا الله من فضله ورسوله ) ما نحتاج إليه (
إنا إلى الله راغبون ) في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس . وجواب " لو " محذوف أي : لكان خيرا لهم وأعود عليهم .
قوله تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) الآية ، بين الله تعالى في هذه الآية أهل سهمان الصدقات وجعلها
لثمانية أصناف . وروي عن
زياد بن الحارث الصدائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتاه رجل وقال : أعطني من الصدقة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك "
قوله تعالى (
للفقراء والمساكين ) فأحد أصناف الصدقة : الفقراء ، والثاني : المساكين .
واختلف العلماء في
صفة الفقير والمسكين ، فقال
ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري : الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين : الذي يسأل .
وقال
ابن عمر : ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة ، ولكن من أنقى
[ ص: 62 ] نفسه وثيابه لا يقدر على شيء ، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف .
وقال
قتادة : الفقير : المحتاج الزمن ، والمسكين : الصحيح المحتاج .
وروي عن
عكرمة أنه قال : الفقراء من المسلمين ، والمساكين من أهل الكتاب .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعا ، زمنا كان أو غير زمن ، والمسكين من كان له مال أو حرفة ولا يغنيه ، سائلا أو غير سائل . فالمسكين عنده أحسن حالا من الفقير لأن الله تعالى قال : "
أما السفينة فكانت لمساكين [ الكهف - 79 ] أثبت لهم ملكا مع اسم المسكنة .
وعند أصحاب الرأي : الفقير أحسن حالا من المسكين .
وقال
القتيبي : الفقير الذي له البلغة من العيش ، والمسكين الذي لا شيء له .
وقيل : الفقير من له المسكن والخادم ، والمسكين من لا ملك له . وقالوا : كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا عن غيره ، قال الله تعالى : "
أنتم الفقراء إلى الله " ( غافر - 15 ) ، والمسكين المحتاج إلى كل شيء ألا ترى كيف حض على إطعامه ، وجعل طعام الكفارة له ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي : الفقراء هم
المهاجرون ، والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين .
وفي الجملة : الفقر والمسكنة عبارتان عن الحاجة وضعف الحال ، فالفقير المحتاج الذي كسرت الحاجة فقار ظهره ، والمسكين الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت .
أخبرنا
عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، حدثنا
عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا
أبو العباس الأصم ، حدثنا
الربيع ، أنبأنا
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، أنبأنا
سفيان بن عيينة عن
nindex.php?page=showalam&ids=17245هشام ، يعني : ابن عروة ، عن أبيه ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=814797عن nindex.php?page=showalam&ids=5414عبيد الله بن عدي بن الخيار : أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله فسألاه عن الصدقة فصعد فيهما وصوب فقال : " إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب " .
واختلفوا في
حد الغنى الذي يمنع أخذ الصدقة فقال الأكثرون : حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة ، وهو قول
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي .
وقال أصحاب الرأي : حده أن يملك مائتي درهم .
[ ص: 63 ] وقال قوم : من ملك خمسين درهما لا تحل له الصدقة لما روينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=814149من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح " ، قيل : يا رسول الله وما يغنيه؟ قال : " خمسون درهما أو قيمتها من الذهب " . وهو قول
الثوري nindex.php?page=showalam&ids=16418وابن المبارك وأحمد وإسحاق . وقالوا لا يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهما . وقيل : أربعون درهما لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا " .
قوله تعالى : (
والعاملين عليها ) وهم
السعاة الذين يتولون قبض الصدقات من أهلها ووضعها في حقها ، فيعطون من مال الصدقة ، فقراء كانوا أو أغنياء ، فيعطون أجر مثل عملهم .
وقال
الضحاك ومجاهد : لهم الثمن من الصدقة .
(
والمؤلفة قلوبهم ) فالصنف الرابع
من المستحقين للصدقة هم المؤلفة قلوبهم ، وهم قسمان : قسم مسلمون ، وقسم كفار . فأما المسلمون : فقسمان ، قسم دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم تألفا كما أعطى
عيينة بن بدر ، والأقرع بن حابس ،
والعباس بن مرداس ، أو أسلموا ونيتهم قوية في الإسلام ، وهم شرفاء في قومهم مثل :
عدي بن حاتم ،
والزبرقان بن بدر ، فكان يعطيهم تألفا لقومهم ، وترغيبا لأمثالهم في الإسلام ، فهؤلاء يجوز للإمام أن يعطيهم من خمس خمس الغنيمة ، والفيء سهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الصدقات .
والقسم الثاني من مؤلفة المسلمين : أن يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار في موضع متناط لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بمؤنة كثيرة وهم لا يجاهدون ، إما لضعف نيتهم أو لضعف حالهم ، فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة . وقيل : من سهم المؤلفة . ومنهم قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة يأخذون منهم الزكاة يحملونها إلى الإمام ، فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات . وقيل : من سهم سبيل الله .
[ ص: 64 ] روي أن
عدي بن حاتم جاء
nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر الصديق بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه
أبو بكر منها ثلاثين بعيرا .
وأما الكفار من المؤلفة : فهو من يخشى شره منهم ، أو يرجى إسلامه ، فيريد الإمام أن يعطي هذا حذرا من شره ، أو يعطي ذلك ترغيبا له في الإسلام فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس ، كما أعطى
صفوان بن أمية لما يرى من ميله إلى الإسلام ، أما اليوم فقد أعز الله الإسلام فله الحمد ، وأغناه أن يتألف عليه رجال ، فلا يعطى مشرك تألفا بحال ، وقد قال بهذا كثير من أهل العلم أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط . روي ذلك عن
عكرمة ، وهو قول
الشعبي ، وبه قال
مالك nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ، وأصحاب الرأي ،
nindex.php?page=showalam&ids=12418وإسحاق بن راهويه .
وقال قوم : سهمهم ثابت ، يروى ذلك عن
الحسن ، وهو قول
الزهري ،
nindex.php?page=showalam&ids=11958وأبي جعفر محمد بن علي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبي ثور ، وقال
أحمد : يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك .
قوله تعالى : (
وفي الرقاب )
والصنف الخامس : هم الرقاب ، وهم المكاتبون ، لهم سهم من الصدقة ، هذا قول أكثر الفقهاء ، وبه قال
سعيد بن جبير ،
والنخعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ،
nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث بن سعد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي . وقال جماعة : يشترى بسهم الرقاب عبيد فيعتقون . وهذا قول
الحسن ، وبه قال
مالك وأحمد وإسحاق .
قوله تعالى : ( والغارمين )
الصنف السادس هم : الغارمون ، وهم قسمان : قسم دانوا لأنفسهم في غير معصيته ، فإنهم يعطون من الصدقة إذا لم يكن لهم من المال ما يفي بديونهم ، فإن كان عندهم وفاء فلا يعطون ، وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذات البين فإنهم يعطون من مال الصدقة ما يقضون به ديونهم ، وإن كانوا أغنياء .
أخبرنا
أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا
زاهر بن أحمد ، أنبأنا
أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا
أبو مصعب عن
مالك عن
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16572عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=814798لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله ، أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المساكين فأهدى المسكين للغني ، أو لعامل عليها " .
ورواه
معمر عن
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=16572عطاء بن يسار عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلا بمعناه .
[ ص: 65 ] أما من كان دينه في معصية فلا يدفع إليه .
وقوله تعالى : (
وفي سبيل الله ) أراد بها :
الغزاة ، فلهم سهم من الصدقة ، يعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ، وما يستعينون به على أمر الغزو من النفقة ، والكسوة ، والسلاح ، والحمولة ، وإن كانوا أغنياء ، ولا يعطى منه شيء في الحج عند أكثر أهل العلم .
وقال قوم : يجوز أن
يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج . ويروى ذلك عن
ابن عباس ، وهو قول
الحسن ،
وأحمد ، وإسحاق .
قوله تعالى : (
وابن السبيل )
الصنف الثامن : هم أبناء السبيل ، فكل من يريد سفرا مباحا ولم يكن له ما يقطع به المسافة يعطى من الصدقة بقدر ما يقطع به تلك المسافة ، سواء كان له في البلد المنتقل إليه مال أو لم يكن .
وقال
قتادة : ابن السبيل هو الضيف .
وقال
فقهاء العراق : ابن السبيل الحاج المنقطع .
قوله تعالى : (
فريضة ) أي : واجبة ( من الله ) وهو نصب على القطع ، وقيل : على المصدر ، أي : فرض الله هذه الأشياء فريضة . ( والله عليم حكيم ) .
اختلف الفقهاء في
كيفية قسم الصدقات ، وفي جواز
صرفها إلى بعض الأصناف :
فذهب جماعة إلى أنه لا يجوز صرفها كلها إلى بعضهم مع وجود سائر الأصناف ، وهو قول
عكرمة ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، قال : يجب أن تقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الأصناف الستة ، الذين سهمانهم ثابتة قسمة على السواء ، لأن سهم المؤلفة ساقط ، وسهم العامل إذا قسم - بنفسه ، ثم حصة كل صنف منهم لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وجد منهم ثلاثة أو أكثر ، فلو فاوت بين أولئك الثلاث يجوز ، فإن لم يوجد من بعض الأصناف إلا واحد صرف حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج عن حد الاستحقاق ، فإن انتهت حاجته وفضل شيء رده إلى الباقين .
وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف ، أو إلى شخص واحد منهم يجوز ، وإنما سمى الله تعالى هذه الأصناف الثمانية إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه
[ ص: 66 ] الأصناف ، لا إيجابا لقسمها بينهم جميعا . وهو قول
عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ، وبه قال
سعيد بن جبير nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء ، وإليه ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري وأصحاب الرأي ، وبه قال
أحمد ، قال : يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى .
وقال
إبراهيم : إن كان المال كثيرا يحتمل الإجزاء قسمه على الأصناف ، وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد .
وقال
مالك : يتحرى موضع الحاجة منهم ، ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخلة والحاجة ، فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدمهم ، وإن رآها في عام في صنف آخر حولها إليهم .
وكل من دفع إليه شيء من الصدقة لا يزيد على قدر الاستحقاق ، فلا يزيد الفقير على قدر غناه ، فإذا حصل أدنى اسم الغنى لا يعطى بعده ، فإن كان محترفا لكنه لا يجد آلة حرفته : فيعطى قدر ما يحصل به آلة حرفته ، ولا يزاد العامل على أجر عمله ، والمكاتب على قدر ما يعتق به ، وللغريم على قدر دينه ، وللغازي على قدر نفقته للذهاب والرجوع والمقام في مغزاه وما يحتاج إليه من الفرس والسلاح ، ولابن السبيل على قدر إتيانه مقصده أو مآله .
واختلفوا في
نقل الصدقة عن بلد المال إلى موضع آخر ، مع وجود المستحقين فيه : فكرهه أكثر أهل العلم ، لما أخبرنا
أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أنبأنا
أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، حدثنا
أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، حدثنا
أبو عيسى الترمذي ، حدثنا
أبو كريب ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15924زكريا بن إسحاق المكي ، حدثنا
يحيى بن عبد الله بن الصيفي عن
أبي معبد عن
ابن عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=814799أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال : " إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب " .
فهذا يدل على أن صدقة أغنياء كل قوم ترد على فقراء ذلك القوم .
واتفقوا على أنه إذا نقل من بلد إلى بلد آخر أدي مع الكراهة ، وسقط الفرض عن ذمته ، إلا ما
[ ص: 67 ] حكي عن
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه رد صدقة حملت من
خراسان إلى
الشام إلى مكانها من
خراسان .