الحديث الثاني قوله : ( حدثني إسحاق ) هو ابن شاهين الواسطي ، nindex.php?page=showalam&ids=15804وخالد هو ابن عبد الله الطحان ، والجريري بضم الجيم هو سعيد بن إياس ، وهو ممن اختلط ولم أر من صرح بأن سماع خالد منه قبل الاختلاط ولا بعده ، لكن تقدم في الشهادات من طريق بشر بن المفضل ويأتي في استتابة المرتدين من رواية إسماعيل بن علية كلاهما عن الجريري ، وإسماعيل ممن سمع من الجريري قبل اختلاطه ، وبين في الشهادات تصريح الجريري في رواية إسماعيل عنه بتحديث nindex.php?page=showalam&ids=16329عبد الرحمن بن أبي بكرة له به .
قوله : ( ألا أنبئكم ) في رواية بشر بن المفضل عن الجريري في الاستئذان ألا أخبركم .
قوله : ( بأكبر الكبائر ثلاثا ) أي قالها ثلاث مرات على عادته في تكرير الشيء ثلاث مرات تأكيدا لينبه السامع على إحضار قلبه وفهمه للخبر الذي يذكره وفهم بعضهم منه أن المراد بقوله : " ثلاثا " عدد الكبائر وهو بعيد ، ويؤيد الأول أن أول رواية إسماعيل nindex.php?page=showalam&ids=13382بن علية في استتابة المرتدين nindex.php?page=hadith&LINKID=842842أكبر الكبائر الإشراك ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور ثلاثا وقد اختلف السلف فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر ، ومنها صغائر ، وشذت طائفة منهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني فقال : ليس في الذنوب صغيرة بل كل ما نهى الله عنه كبيرة ، ونقل ذلك عن ابن عباس ، وحكاه القاضي عياض عن المحققين ، واحتجوا بأن كل مخالفة لله فهي بالنسبة إلى جلاله كبيرة ا ه . ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية فقال : انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء ، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه فقالوا : المعاصي كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال القبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا وكلها كبائر ، قالوا : ولا ذنب عندنا يغفر واجبا باجتناب ذنب آخر بل كل ذلك كبيرة ، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر ، لقوله - تعالى - : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . وأجابوا عن الآية التي احتج أهل القول الأول بها وهي قوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه أن المراد الشرك . وقد قال الفراء : من قرأ " كبائر " فالمراد بها كبير ، وكبير الإثم هو الشرك ، وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله - تعالى - : كذبت قوم نوح المرسلين ولم يرسل إليهم غير نوح ، قالوا : وجواز العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة ا ه . قال النووي : قد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة إلى القول الأول ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في " البسيط " إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه . قلت : قد حقق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة واختاره وبين أنه لا يخالف ما قاله الجمهور ، فقال في " الإرشاد " : المرضي عندنا أن كل ذنب يعصى الله به كبيرة ، فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران ولو كان في حق الملك لكان كبيرة ، والرب أعظم من عصي ، فكل ذنب بالإضافة إلى مخالفته عظيم ; ولكن الذنوب وإن عظمت فهي متفاوتة في رتبها . وظن بعض الناس أن الخلاف لفظي فقال : التحقيق أن للكبيرة اعتبارين : [ ص: 424 ] فبالنسبة إلى مقايسة بعضها لبعض فهي تختلف قطعا ، وبالنسبة إلى الآمر الناهي فكلها كبائر ا ه . والتحقيق أن الخلاف معنوي ، وإنما جرى إليه الأخذ بظاهر الآية ، والحديث الدال على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر كما تقدم ، والله أعلم . وقال القرطبي : ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله - عز وجل - عنه كبيرة لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وقوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم فجعل في المنهيات صغائر وكبائر ، وفرق بينهما في الحكم إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطا باجتناب الكبائر ، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش ، فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن ؟ قلت : ويؤيده ما سيأتي عن ابن عباس في تفسير اللمم ، لكن النقل المذكور عنه أخرجه إسماعيل القاضي nindex.php?page=showalam&ids=16935والطبري بسند صحيح على شرط الشيخين إلى ابن عباس فالأولى أن يكون المراد بقوله : " نهى الله عنه " محمولا على نهي خاص وهو الذي قرن به وعيد كما قيد في الرواية الأخرى عن ابن عباس فيحمل مطلقه على مقيده جمعا بين كلاميه . وقال الطيبي : الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان ، فلا بد من أمر يضافان إليه وهو أحد ثلاثة أشياء : الطاعة أو المعصية أو الثواب . فأما الطاعة فكل ما تكفره الصلاة مثلا هو من الصغائر ، وكل ما يكفره الإسلام أو الهجرة فهو من الكبائر . وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا أو عقابا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة ، وأما الثواب ففاعل المعصية إذا كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة ، فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية ا ه . وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب يخصص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها ، لكن يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلا ليس كبيرة ، كأنه وإن ورد الوعيد فيه أو العقاب لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل ولده أشد ، فالصواب ما قاله الجمهور وأن المثال المذكور وما أشبهه ينقسم إلى كبيرة وأكبر ، والله أعلم . قال النووي : واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا ، فروي عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه الله بنار في الآخرة أو أوجب فيه حدا في الدنيا ، قلت : وممن نص على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى ، ومن الشافعية nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي ولفظه : الكبيرة ما وجبت فيه الحدود ، أو توجه إليها الوعيد . والمنقول عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به ، إلا أن فيه انقطاعا . وأخرج من وجه آخر متصل لا بأس برجاله أيضا عن ابن عباس قال : كل ما توعد الله عليه بالنار كبيرة . وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخرى ، منها قول إمام الحرمين : كل جريمة تؤذن بقلة اكثراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة . وقول nindex.php?page=showalam&ids=14164الحليمي : كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه . وقال الرافعي : هي ما أوجب الحد . وقيل : ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة . هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل ; لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر ا ه كلامه . وقد استشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص بكونه كبيرة لا حد فيه كالعقوق ، وأجاب بعض الأئمة بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة . وقال ابن عبد السلام في " القواعد " : لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض ، والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها . قلت : وهو ضابط جيد . وقال القرطبي في " المفهم " : الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة ، وكلام ابن الصلاح يوافق ما نقل أولا عن ابن عباس ، وزاد إيجاب الحد ، وعلى هذا يكثر عدد الكبائر . فأما ما ورد النص الصريح بكونه كبيرة فسيأتي القول فيه في الكلام على حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة nindex.php?page=hadith&LINKID=842395اجتنبوا السبع الموبقات في كتاب استتابة المرتدين ، ونذكر هناك ما ورد في الأحاديث زيادة على السبع المذكورات مما نص على كونها كبيرة أو موبقة . وقد ذهب آخرون إلى أن الذنوب التي لم ينص على كونها كبيرة مع كونها كبيرة [ ص: 425 ] لا ضابط لها ، فقال الواحدي : ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة ، كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم ، والله أعلم .
قوله : ( الإشراك بالله ) قال ابن دقيق العيد : يحتمل أن يراد به مطلق الكفر ، ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود ، لا سيما في بلاد العرب ، فذكر تنبيها على غيره من أصناف الكفر . ويحتمل أن يراد به خصوصه إلا أنه يرد على هذا الاحتمال أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم من الشرك وهو التعطيل فيترجح الاحتمال الأول على هذا .
قوله : ( وعقوق الوالدين ) تقدم الكلام عليه قريبا ، وذكر قبله في حديث أنس الآتي بعده قتل النفس والمراد قتلها بغير حق .
قوله : ( وكان متكئا فجلس ) في رواية بشر بن المفضل عن الجريري في الشهادات " وجلس وكان متكئا " وأما في الاستئذان فكالأول .
قوله : ( فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور ، ألا وقول الزور وشهادة الزور ، فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت ) هكذا في هذه الطريق ، ووقع في رواية بشر بن المفضل nindex.php?page=hadith&LINKID=842848فقال ألا وقول الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " أي تمنيناه يسكت إشفاقا عليه لما رأوا من انزعاجه في ذلك . وقال ابن دقيق العيد : اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بشهادة الزور يحتمل أن يكون لأنها أسهل وقوعا على الناس ، والتهاون بها أكثر ، ومفسدتها أيسر وقوعا ; لأن الشرك ينبو عنه المسلم ، والعقوق ينبو عنه الطبع ، وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة فحسن الاهتمام بها ، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها . قال : وأما عطف الشهادة على القول فينبغي أن يكون تأكيدا للشهادة لأنا لو حملناه على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة وليس كذلك ، وإذا كان بعض الكذب منصوصا على عظمه كقوله - تعالى - : [ ص: 426 ] ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا . وفي الجملة فمراتب الكذب متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده ، قال : وقد نص الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة ، والغيبة تختلف بحسب القول المغتاب به ، فالغيبة بالقذف كبيرة ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة أو الهيئة مثلا ، والله أعلم . وقال غيره : يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام ; لأن كل شهادة زور قول زور بغير عكس ، ويحتمل قول الزور على نوع خاص منه . قلت : والأولى ما قاله الشيخ ، ويؤيده وقوع الشك في ذلك في حديث أنس الذي بعده ، فدل على أن المراد شيء واحد . وقال القرطبي : شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال ، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررا منها ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله . وزعم بعضهم أن المراد بشهادة الزور في هذا الحديث الكفر ، فإن الكافر شاهد بالزور وهو ضعيف ، وقيل : المراد من يستحل شهادة الزور وهو بعيد ، والله أعلم .