ما قال لا قط إلا في تشهده
قلت : وليس المراد أنه يعطي ما يطلب منه جزما ، بل المراد أنه لا ينطق بالرد ، بل إن كان عنده أعطاه إن كان الإعطاء سائغا وإلا سكت . وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل أخرجه لابن الحنفية ابن سعد ولفظه " إذا سئل فأراد أن يفعل قال نعم ، وإذا لم يرد أن يفعل سكت " وهو قريب من حديث الماضي في الأطعمة " أبي هريرة ما عاب طعاما قط ، إن اشتهاه أكله وإلا تركه " وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : معناه لم يقل " لا " منعا للعطاء ، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارا كما في قوله - تعالى - : قلت لا أجد ما أحملكم عليه ولا يخفى الفرق بين قول لا أجد ما أحملكم [ ص: 473 ] وبين لا أحملكم . قلت : وهو نظير ما تقدم في حديث لما سأل أبي موسى الأشعري الأشعريون الحملان فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما عندي ما أحملكم لكن يشكل على ما تقدم أن في حديث الأشعري المذكور أنه - صلى الله عليه وسلم - حلف لا يحملهم فقال : والله لا أحملكم فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر بما إذا سئل ما ليس عنده والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك ، أو حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة أو من حال السائل ، كأن يكون لم يعرف العادة ، فلو اقتصر في جوابه على السكوت مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلا ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل ، والسر في الجمع بين قوله : لا أجد ما أحملكم وقوله : والله لا أحملكم أن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودا عنده ، والثاني أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا أو بالاستيهاب إذ لا اضطرار حينئذ إلى ذلك ، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الأيمان والنذور . وفهم بعضهم من لازم عدم قول " لا " إثبات " نعم " ورتب عليه أنه يلزم منه تحريم البخل ; لأن من القواعد أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا واظب على شيء كان ذلك علامة وجوبه ، والترجمة تقتضي أن البخل مكروه . وأجيب بأنه إذا تم هذا البحث حملت الكراهة على التحريم ، لكنه لا يتم لأن الذي يحرم من البخل ما يمنع الواجب سلمنا أنه يدل على الوجوب لكن على من هو في مقام النبوة ، إذ مقابله نقص منزه عنه الأنبياء فيختص الوجوب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والترجمة تتضمن أن من البخل ما يكره ، ومقابله أن منه ما يحرم كما أن فيه ما يباح بل ويستحب بل ويجب ، فلذلك اقتصر المصنف على قوله يكره .