[ ص: 278 ] قوله باب فضل الفقر قيل أشار بهذه الترجمة عقب التي قبلها إلى تحقيق محل الخلاف في تفضيل الفقر على الغنى أو عكسه ; لأن المستفاد من قوله nindex.php?page=hadith&LINKID=856552الغنى غنى النفس الحصر في ذلك فيحمل كل ما ورد في فضل الغنى على ذلك فمن لم يكن غني النفس لم يكن ممدوحا بل يكون مذموما فكيف يفضل وكذا ما ورد من فضل الفقر لأن من لم يكن غني النفس فهو فقير النفس وهو الذي تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه والفقر الذي وقع فيه النزاع عدم المال والتقلل منه وأما الفقر في قوله - تعالى - ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد فالمراد به احتياج المخلوق إلى الخالق فالفقر للمخلوقين أمر ذاتي لا ينفكون عنه والله هو الغني ليس بمحتاج لأحد ويطلق الفقر أيضا على شيء اصطلح عليه الصوفية وتفاوتت فيه عباراتهم وحاصله كما قال أبو إسماعيل الأنصاري نفض اليد من الدنيا ضبطا وطلبا مدحا وذما ، وقالوا إن المراد بذلك أن لا يكون ذلك في قلبه سواء حصل في يده أم لا وهذا يرجع إلى ما تضمنه الحديث الماضي في الباب قبله أن الغنى غنى النفس على ما تقدم تحقيقه والمراد بالفقر هنا الفقر من المال .
وممن جنح إلى تفضيل الكفاف القرطبي في " المفهم " فقال جمع الله سبحانه وتعالى لنبيه الحالات الثلاث الفقر والغنى والكفاف فكان الأول أول حالاته فقام بواجب ذلك من مجاهدة النفس ثم فتحت عليه الفتوح فصار بذلك في حد الأغنياء فقام بواجب ذلك من بذله لمستحقه والمواساة به والإيثار مع اقتصاره منه على ما يسد ضرورة عياله وهي صورة الكفاف التي مات عليها قال : وهي حالة سليمة من الغنى المطغي والفقر المؤلم وأيضا فصاحبها معدود في الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر عن القدر الزائد على الكفاف فلم يفته من حال الفقر إلا السلامة من قهر الحاجة وذل المسألة انتهى .
وقال القرطبي : هو ما يكف عن الحاجات ويدفع الضرورات ولا يلحق بأهل الترفهات ومعنى الحديث أن من اتصف بتلك الصفات حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدنيا والآخرة ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - nindex.php?page=hadith&LINKID=856559اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال وقد قال nindex.php?page=hadith&LINKID=3504133خير الأمور أوساطها انتهى ويؤيده ما أخرجه ابن المبارك في " الزهد " بسند صحيح عن nindex.php?page=showalam&ids=14945القاسم بن محمد بن أبي بكر عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قليل العمل قليل الذنوب أفضل أو رجل كثير العمل كثير الذنوب ؟ فقال " لا أعدل بالسلامة شيئا " فمن حصل له ما يكفيه واقتنع به أمن من آفات الغنى وآفات الفقر وقد ورد حديث لو صح لكان نصا في المسألة وهو ما أخرجه ابن ماجه من طريق نفيع - وهو ضعيف - عن أنس رفعه nindex.php?page=hadith&LINKID=856564ما من غني ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتا قلت وهذا كله صحيح لكن لا يدفع أصل السؤال عن أيهما أفضل الغنى أو الفقر ؟ لأن النزاع إنما ورد في حق من اتصف بأحد الوصفين أيهما في حقه أفضل ؟ ولهذا قال الداودي في آخر كلامه المذكور أولا إن السؤال أيهما أفضل لا يستقيم لاحتمال أن يكون لأحدهما من العمل الصالح [ ص: 280 ] ما ليس للآخر فيكون أفضل وإنما يقع السؤال عنهما إذا استويا بحيث يكون لكل منهما من العمل ما يقاوم به عمل الآخر قال فعلم أيهما أفضل عند الله انتهى وكذا قال ابن تيمية لكن قال إذا استويا في التقوى فهما في الفضل سواء وقد تقدم كلام ابن دقيق العيد في الكلام على حديث أهل الدثور قبيل كتاب الجمعة ومحصل كلامه أن الحديث يدل على تفضيل الغنى على الفقر لما تضمنه من زيادة الثواب بالقرب المالية إلا إن فسر الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي حصل للنفس من التطهير للأخلاق والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرف فيترجح الفقر ولهذا المعنى ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر ; لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها وذلك مع الفقر أكثر منه في الغنى انتهى وقال nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي : صورة الاختلاف في فقير ليس بحريص وغني ليس بممسك إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني البخيل وأن الغني المنفق أفضل من الفقير الحريص ، قال وكل ما يراد لغيره ولا يراد لعينه ينبغي أن يضاف إلى مقصوده فبه يظهر فضله .
فالمال ليس محذورا لعينه بل لكونه قد يعوق عن الله وكذا العكس فكم من غني لم يشغله غناه عن الله وكم من فقير شغله فقره عن الله إلى أن قال وإن أخذت بالأكثر فالفقير عن الخطر أبعد لأن فتنة الغنى أشد من فتنة الفقر ومن العصمة أن لا تجد ، انتهى وصرح كثير من الشافعية بأن الغني الشاكر أفضل وأما قول أبي علي الدقاق شيخ nindex.php?page=showalam&ids=14999أبي القاسم القشيري : الغني أفضل من الفقير ; لأن الغنى صفة الخالق والفقر صفة المخلوق وصفة الحق أفضل من صفة الخلق فقد استحسنه جماعة من الكبار وفيه نظر لما قدمته أول الباب ويظهر منه أن هذا لا يدخل في أصل النزاع إذ ليس هو في ذات الصفتين وإنما هو في عوارضهما وبين بعض من فضل الغني على الفقير كالطبري جهته بطريق أخرى فقال لا شك أن محنة الصابر أشد من محنة الشاكر غير أني أقول كما قال مطرف بن عبد الله : لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر قلت وكأن السبب فيه ما جبل عليه طبع الآدمي من قلة الصبر ولهذا يوجد من يقوم بحسب الاستطاعة بحق الصبر أقل ممن يقوم بحق الشكر بحسب الاستطاعة وقال بعض المتأخرين فيما وجد بخط أبي عبد الله بن مرزوق : كلام الناس في أصل المسألة مختلف فمنهم من فضل الفقر ومنهم من فضل الغنى ومنهم من فضل الكفاف وكل ذلك خارج عن محل الخلاف وهو أي الحالين أفضل عند الله للعبد حتى يتكسب ذلك ويتخلق به ؟ هل التقلل من المال أفضل ليتفرغ قلبه من الشواغل وينال لذة المناجاة ولا ينهمك في الاكتساب ليستريح من طول الحساب أو التشاغل باكتساب المال أفضل ليستكثر به من التقرب بالبر والصلة والصدقة لما في ذلك من النفع المتعدي ؟ قال وإذا كان الأمر كذلك فالأفضل ما اختاره النبي - صلى الله عليه وسلم - وجمهور أصحابه من التقلل في الدنيا والبعد عن زهراتها ويبقى النظر فيمن حصل له شيء من الدنيا بغير تكسب منه كالميراث وسهم الغنيمة هل الأفضل أن يبادر إلى إخراجه في وجوه البر حتى لا يبقى منه شيء أو يتشاغل بتثميره ليستكثر من نفعه المتعدي ؟ قال وهو على القسمين الأولين . قلت ومقتضى ذلك أن يبذل إلى أن يبقى في حال الكفاف ولا يضره ما يتجدد من ذلك إذا سلك هذه الطريقة ودعوى أن جمهور الصحابة كانوا على التقلل والزهد ممنوعة بالمشهور من أحوالهم فإنهم كانوا على قسمين بعد أن فتحت عليهم الفتوح فمنهم من أبقى ما بيده مع التقرب إلى ربه بالبر والصلة والمواساة مع الاتصاف بغنى النفس ومنهم من استمر على ما كان عليه قبل ذلك فكان لا يبقي شيئا مما فتح عليه به وهم قليل بالنسبة للطائفة الأخرى ومن تبحر في سير السلف علم صحة ذلك فأخبارهم في ذلك لا تحصى كثرة وحديث خباب في الباب شاهد لذلك .
والأدلة الواردة في فضل كل من الطائفتين كثيرة فمن الشق الأول بعض أحاديث الباب وغيرها ومن الشق الثاني حديث nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص رفعه nindex.php?page=hadith&LINKID=856565إن الله يحب الغني التقي الخفي أخرجه مسلم وهو دال لما قلته سواء حملنا الغنى فيه على المال أو على غنى النفس فإنه على الأول ظاهر وعلى [ ص: 281 ] الثاني يتناول القسمين فيحصل المطلوب والمراد بالتقي وهو بالمثناة من يترك المعاصي امتثالا للمأمور به واجتنابا للمنهي عنه والخفي ذكر للتتميم إشارة إلى ترك الرياء والله أعلم ومن المواضع التي وقع فيها التردد من لا شيء له فالأولى في حقه أن يتكسب للصون عن ذل السؤال أو يترك وينتظر ما يفتح عليه بغير مسألة فصح عن أحمد مع ما اشتهر من زهده وورعه أنه قال لمن سأله عن ذلك الزم السوق وقال لآخر استغن عن الناس فلم أر مثل الغنى عنهم . وقال ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله وأن يعودوا أنفسهم التكسب ومن قال بترك التكسب فهو أحمق يريد تعطيل الدنيا نقله عنه أبو بكر المروزي . وقال أجرة التعليم والتعلم أحب إلي من الجلوس لانتظار ما في أيدي الناس وقال أيضا من جلس ولم يحترف دعته نفسه إلى ما في أيدي الناس .
وأسند عن عمر " كسب فيه بعض الشيء خير من الحاجة إلى الناس " وأسند عن nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب أنه قال عند موته وترك مالا " اللهم إنك تعلم أني لم أجمعه إلا لأصون به ديني " وعن nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري nindex.php?page=showalam&ids=12032وأبي سليمان الداراني ونحوهما من السلف نحوه بل نقله البربهاري عن الصحابة والتابعين وأنه لا يحفظ عن أحد منهم أنه ترك تعاطي الرزق مقتصرا على ما يفتح عليه واحتج من فضل الغنى بآية الأمر في قوله - تعالى - : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل الآية قال وذلك لا يتم إلا بالمال وأجاب من فضل الفقر بأنه لا مانع أن يكون الغنى في جانب أفضل من الفقر في حالة مخصوصة ولا يستلزم أن يكون أفضل مطلقا وذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث الحديث الأول
قوله حدثنا nindex.php?page=showalam&ids=12427إسماعيل هو ابن أبي أويس كما صرح به أبو نعيم وأبو حازم هو سلمة بن دينار
قوله مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لرجل عنده ما رأيك في هذا ) ؟ تقدم في " باب الأكفاء في الدين " من أوائل النكاح عن إبراهيم بن حمزة عن أبي حازم " فقال ما تقولون في هذا " وهو خطاب لجماعة ووقع في رواية nindex.php?page=showalam&ids=15622جبير بن نفير عن أبي ذر عند أحمد وأبي يعلى nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان بلفظ " قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - nindex.php?page=hadith&LINKID=856566انظر إلى أرفع رجل في المسجد في عينيك قال فنظرت إلى رجل في حلة الحديث فعرف منه أن المسئول هو أبو ذر ويجمع بينه وبين حديث سهل أن الخطاب وقع لجماعة منهم أبو ذر ووجه إليه فأجاب ولذلك نسبه لنفسه وأما المار فلم أقف على اسمه ووقع في رواية أخرى nindex.php?page=showalam&ids=13053لابن حبان nindex.php?page=hadith&LINKID=856567سألني رسول - صلى الله عليه وسلم - عن رجل من قريش فقال هل تعرف فلانا ؟ قلت نعم الحديث ووقع في المغازي nindex.php?page=showalam&ids=12563لابن إسحاق ما قد يؤخذ منه أنه عيينة بن حصن الفزاري أو الأقرع بن حابس التميمي كما سأذكره
قوله فقال أي المسئول
قوله رجل من أشراف الناس أي هذا رجل من أشراف الناس ووقع كذلك عند ابن ماجه عن محمد بن الصباح عن أبي حازم
قوله هذا والله حري بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وتشديد آخره أي جدير وحقيق وزنا ومعنى ووقع في رواية إبراهيم بن حمزة " قالوا حري "
وفي الحديث بيان فضل جعيل المذكور وأن السيادة بمجرد الدنيا لا أثر لها ، وإنما الاعتبار في ذلك بالآخرة كما تقدم nindex.php?page=hadith&LINKID=856572أن العيش عيش الآخرة وأن الذي يفوته الحظ من الدنيا يعاض عنه بحسنة الآخرة ففيه فضيلة للفقر كما ترجم به لكن لا حجة فيه لتفضيل الفقير على الغني قال ابن بطال لأنه إن كان فضل عليه لفقره فكان ينبغي أن يقول خير من ملء الأرض مثله لا فقير فيهم وإن كان لفضله فلا حجة فيه قلت يمكنهم أن يلتزموا الأول والحيثية مرعية لكن تبين من سياق طرق القصة أن جهة تفضيله إنما هي لفضله بالتقوى وليست المسألة مفروضة في فقير متق وغني غير متق بل لا بد من استوائهما أولا في التقوى وأيضا فما في الترجمة تصريح بتفضيل الفقر على الغنى إذ لا يلزم من ثبوت فضيلة الفقر أفضليته وكذلك لا يلزم من ثبوت أفضلية فقير على غني أفضلية كل فقير على كل غني الحديث الثاني