فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي : انعقد الإجماع على أن المكره على القتل مأمور باجتناب القتل والدفع عن نفسه وأنه يأثم إن قتل من أكره على قتله ، وذلك يدل أنه مكلف حالة الإكراه ، وكذا وقع في كلام nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي وغيره ، ومقتضى كلامهم تخصيص الخلاف بما إذا وافق داعية الإكراه داعية الشرع كالإكراه على قتل الكافر وإكراهه على الإسلام .
أما ما خالف فيه داعية الإكراه داعية الشرع كالإكراه على القتل فلا خلاف في جواز التكليف به ، وإنما جرى الخلاف في تكليف الملجإ وهو من [ ص: 327 ] لا يجد مندوحة عن الفعل كمن ألقي من شاهق وعقله ثابت فسقط على شخص فقتل فإنه لا مندوحة له عن السقوط ولا اختيار له في عدمه وإنما هو آلة محضة ، ولا نزاع في أنه غير مكلف إلا ما أشار إليه الآمدي من التفريع على تكليف ما لا يطاق ، وقد جرى الخلاف في تكليف الغافل كالنائم والناسي وهو أبعد من الملجإ لأنه لا شعور له أصلا وإنما قال الفقهاء بتكليفه على معنى ثبوت الفعل في ذمته أو من جهة ربط الأحكام بالأسباب .
وقال القفال : إنما شرع سجود السهو ووجبت الكفارة على المخطئ لكون الفعل في نفسه متهيئا من حيث هو لا أن الغافل نهي عنه حالة الغفلة إذ لا يمكنه التحفظ عنه ، واختلف فيما يهدد به فاتفقوا على القتل وإتلاف العضو والضرب الشديد والحبس الطويل ، واختلفوا في يسير الضرب والحبس كيوم أو يومين .
قوله : ( وقول الله تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) وساق إلى عظيم . وهو وعيد شديد لمن ارتد مختارا ، وأما من أكره على ذلك فهو معذور بالآية ؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي فيقتضي أن لا يدخل الذي أكره على الكفر تحت الوعيد .
قوله : ( وقال : إلا أن تتقوا منهم تقاة وهي تقية ) أخذه من كلام أبي عبيدة قال : تقاة وتقية واحد .
قلت : وقد تقدم ذلك في تفسير آل عمران ومعنى الآية : لا يتخذ المؤمن الكافر وليا في الباطن ولا في الظاهر إلا للتقية في [ ص: 328 ] الظاهر فيجوز أن يواليه إذا خافه ويعاديه باطنا . قيل : الحكمة في العدول عن الخطاب أن موالاة الكفار لما كانت مستقبحة لم يواجه الله المؤمنين بالخطاب .
ووقع في رواية النسفي إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم الآيات قال : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله - إلى قوله - : نصيرا وهو صواب وإن كانت الآيات الأولى متراخية في السورة عن الآية الأخيرة فليس فيه شيء من التغيير ، وإنما صدر بالآيات المتراخية للإشارة إلى ما روي عن مجاهد أنها نزلت في ناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم من المدينة فإنا لا نراكم منا إلا أن هاجرتم ، فخرجوا فأدركهم أهلهم بالطريق ففتنوهم حتى كفروا مكرهين ، واقتصر ابن بطال على هذا الأخير وعزاه للمفسرين ، وقال ابن بطال : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى أن يعفو عنهم وقال إلا المستضعفين إلى الظالم أهلها ، قلت : وليس فيه تغيير من التلاوة إلا أن فيه تصرفا فيما ساقه المصنف .
قوله : ( فعذر الله المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله به ) يعني إلا إذا غلبوا . قال : والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمره به أي ما يأمره به من له قدرة على إيقاع الشر به ، أي لأنه لا يقدر على الامتناع من الترك كما لا يقدر المكره على الامتناع من الفعل فهو في حكم المكره .
قوله : ( وقال nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن ) أي البصري ( التقية إلى يوم القيامة ) وصله عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=12508وابن أبي شيبة من رواية عوف الأعرابي " عن nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري قال التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلا أنه كان لا يجعل في القتل تقية " ، ولفظ عبد بن حميد إلا في قتل النفس التي حرم الله يعني لا يعذر من أكره على قتل غيره لكونه يؤثر نفسه على [ ص: 329 ] نفس غيره .
قلت : ومعنى التقية الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير ، وأصله وقية بوزن حمزة فعلة من الوقاية ، وأخرجnindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي من طريق nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : " التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان ولا يبسط يده للقتل " .
قوله : ( وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق ليس بشيء ، وبه قال ابن عمر وابن الزبير nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي والحسن ) أما قول ابن عباس فوصله ابن أبي شيبة من طريق عكرمة أنه سئل عن رجل أكرهه اللصوص حتى طلق امرأته فقال : قال ابن عباس : ليس بشيء ، أي لا يقع عليه الطلاق . وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان لا يرى طلاق المكره شيئا ، وأما قول ابن عمر وابن الزبير فأخرجهما nindex.php?page=showalam&ids=14171الحميدي في جامعه nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي من طريقه قال : " حدثنا سفيان : سمعت عمرا يعني ابن دينار حدثني ثابت الأعرج قال : تزوجت أم ولد عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب فدعاني ابنه ودعا غلامين له فربطوني وضربوني بالسياط وقال : لتطلقها أو لأفعلن وأفعلن فطلقتها ، ثم سألت ابن عمر وابن الزبير فلم يرياه شيئا " .
وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن ثابت الأعرج نحوه . وأما قول الشعبي فوصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه قال : إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق وإن أكرهه السلطان وقع . ونقل عن ابن عيينة توجيهه وهو أن اللص يقدم على قتله والسلطان لا يقتله . وأما قول الحسن فقال nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور : " حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن الحسن أنه كان لا يرى طلاق المكره شيئا وهذا سند صحيح إلى الحسن " .
وقال قوم : محل الرخصة في القول دون الفعل كأن يسجد للصنم أو يقتل مسلما أو يأكل الخنزير أو يزني ، وهو قول الأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=15968وسحنون ، وأخرج إسماعيل القاضي بسند صحيح عن الحسن أنه لا يجعل التقية في قتل النفس المحرمة .
وقالت طائفة : الإكراه في القول والفعل سواء . واختلف في حد الإكراه فأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن عمر قال : " ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سجن أو أوثق أو عذب " ، ومن طريق شريح نحوه وزيادة ولفظه : " أربع كلهن كره : السجن والضرب والوعيد والقيد " ، وعن ابن مسعود قال : " ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به " وهو قول الجمهور ، وعند الكوفيين فيه تفصيل ، واختلفوا في طلاق المكره فذهب الجمهور إلى أنه لا يقع ، ونقل فيه ابن بطال إجماع الصحابة ، وعن الكوفيين يقع ونقل مثله عن الزهري وقتادة وأبي قلابة ، وفيه قول ثالث تقدم عن الشعبي .
قوله : ( nindex.php?page=hadith&LINKID=849839وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعمال بالنية ) هذا طرف من حديث وصله المصنف في كتاب الأيمان بفتح الهمزة ولفظه : " الأعمال بالنية " هكذا وقع فيه بدون " إنما " في أوله ، وإفراد النية ، وقد تقدم شرحه مستوفى في أول حديث في الصحيح ، ويأتي ما يتعلق بالإكراه في أول ترك الحيل قريبا ، وكأن nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أشار بإيراده هنا إلى الرد على من فرق في الإكراه بين القول والفعل لأن العمل فعل ، وإذا كان لا يعتبر إلا بالنية كما دل عليه الحديث ، فالمكره لا نية له ، بل نيته عدم الفعل الذي أكره عليه .
واحتج بعض المالكية بأن التفصيل يشبه ما نزل في القرآن لأن الذين أكرهوا إنما هو على الكلام فيما بينهم وبين ربهم ، فلما لم يكونوا معتقدين له [ ص: 330 ] جعل كأنه لم يكن ولم يؤثر لا في بدن ولا مال ، بخلاف الفعل فإنه يؤثر في البدن والمال ، هذا معنى ما حكاه ابن بطال عن إسماعيل القاضي ، وتعقبه ابن المنير بأنهم أكرهوا على النطق بالكفر وعلى مخالطة المشركين ومعاونتهم وترك ما يخالف ذلك .
ثم ذكر حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة " تقدم في تفسير سورة النساء من وجه آخر عن أبي سلمة بمثل هذا الحديث وزاد أنها صلاة العشاء ، وفي كتاب الصلاة من طريق شعيب عن الزهري عن nindex.php?page=showalam&ids=11947أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي سلمة " أن nindex.php?page=showalam&ids=3أبا هريرة كان يكبر في كل صلاة " الحديث .
وقوله : " والمستضعفين " هو من ذكر العام بعد الخاص وتعلق الحديث بالإكراه لأنهم كانوا مكرهين على الإقامة مع المشركين لأن المستضعف لا يكون إلا مكرها كما تقدم ، ويستفاد منه أن الإكراه على الكفر لو كان كفرا لما دعا لهم وسماهم مؤمنين .