قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق
وقالت الجسمية معناه الاستقرار ، وقال بعض أهل السنة معناه ارتفع ، وبعضهم معناه علا ، وبعضهم معناه الملك [ ص: 417 ] والقدرة ومنه استوت له الممالك ، يقال لمن أطاعه أهل البلاد ، وقيل معنى الاستواء التمام والفراغ من فعل الشيء ، ومنه قوله تعالى ولما بلغ أشده واستوى فعلى هذا فمعنى استوى على العرش أتم الخلق ، وخص لفظ العرش لكونه أعظم الأشياء وقيل إن " على " في قوله على العرش بمعنى : إلى ، فالمراد على هذا انتهى . إلى العرش أي فيما يتعلق بالعرش ؛ لأنه خلق الخلق شيئا بعد شيء ، ثم قال ابن بطال : فأما قول المعتزلة فإنه فاسد ؛ لأنه لم يزل قاهرا غالبا مستوليا ، وقوله ثم استوى يقتضي افتتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن ، ولازم تأويلهم أنه كان مغالبا فيه فاستولى عليه بقهر من غالبه ، وهذا منتف عن الله سبحانه ، وأما قول المجسمة ففاسد أيضا ؛ لأن الاستقرار من صفات الأجسام ويلزم منه الحلول والتناهي ، وهو محال في حق الله تعالى ، ولائق بالمخلوقات لقوله تعالى فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك وقوله لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه قال وأما تفسير استوى : علا فهو صحيح وهو المذهب الحق وقول أهل السنة ؛ لأن الله سبحانه وصف نفسه بالعلى ، وقال سبحانه وتعالى عما يشركون وهي صفة من صفات الذات ، وأما من فسره : ارتفع ففيه نظر ؛ لأنه لم يصف به نفسه ، قال واختلف أهل السنة هل الاستواء صفة ذات أو صفة فعل ، فمن قال معناه علا قال هي صفة ذات ، ومن قال غير ذلك قال هي صفة فعل ، وإن الله فعل فعلا سماه استوى على عرشه ، لا أن ذلك قائم بذاته لاستحالة قيام الحوادث به انتهى . ملخصا . وقد ألزمه من فسره بالاستيلاء بمثل ما ألزم هو به من أنه صار قاهرا بعد أن لم يكن ، فيلزم أنه صار غالبا بعد أن لم يكن ؛ والانفصال عن ذلك للفريقين بالتمسك بقوله تعالى وكان الله عليما حكيما فإن أهل العلم بالتفسير قالوا معناه لم يزل كذلك ، كما تقدم بيانه عن ابن عباس في تفسير فصلت ، وبقي من معاني استوى ما نقل عن ثعلب استوى الوجه اتصل ، واستوى القمر امتلأ واستوى فلان وفلان تماثلا ، واستوى إلى المكان أقبل ، واستوى القاعد قائما والنائم قاعدا ، ويمكن رد بعض هذه المعاني إلى بعض ، وكذا ما تقدم عن ابن بطال ، وقد نقل في كتاب الفاروق بسنده إلى أبو إسماعيل الهروي داود بن علي بن خلف قال : كنا عند فقال له رجل أبي عبد الله بن الأعرابي يعني محمد بن زياد اللغوي الرحمن على العرش استوى فقال هو على العرش كما أخبر ، قال يا أبا عبد الله إنما معناه استولى ، فقال اسكت لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد ، ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي سمعت ابن الأعرابي يقول أرادني أن أجد له في لغة العرب أحمد بن أبي داود الرحمن على العرش استوى بمعنى استولى فقلت والله ما أصبت هذا ، وقال غيره لو كان بمعنى استولى لم يختص بالعرش ؛ لأنه غالب على جميع المخلوقات ، ونقل محيي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع وقال أبو عبيدة والفراء وغيرهما بنحوه ، وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة من طريق عن أمه عن الحسن البصري أم سلمة أنها قالت " الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإقرار به إيمان ، والجحود به كفر " ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش ؟ فقال : " الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، وعلى الله الرسالة ، وعلى رسوله البلاغ ، وعلينا التسليم " وأخرج بسند جيد عن البيهقي الأوزاعي قال كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله على عرشه ، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته ، وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى ثم استوى على العرش فقال : هو كما وصف نفسه ، وأخرج بسند جيد عن البيهقي قال : كنا عند عبد الله بن وهب مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله " الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى وصف به نفسه ولا يقال كيف ، وكيف عنه مرفوع ، وما أراك إلا صاحب بدعة أخرجوه " ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن أم سلمة لكن [ ص: 418 ] قال فيه " والإقرار به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وأخرج من طريق البيهقي قال : كان أبي داود الطيالسي سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف ، قال أبو داود وهو قولنا ، قال وعلى هذا مضى أكابرنا وأسند البيهقي اللالكائي عن قال : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير ، فمن فسر شيئا منها وقال بقول محمد بن الحسن الشيباني جهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفارق الجماعة ؛ لأنه وصف الرب بصفة لا شيء ، ومن طريق سألت الوليد بن مسلم الأوزاعي ومالكا والثوري عن الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف " وأخرج والليث بن سعد ابن أبي حاتم في مناقب عن الشافعي سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول : لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها ، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر ، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل ؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر ، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه ، فقال الشافعي ليس كمثله شيء وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال " كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه " ومن طريق أبي بكر الضبعي قال : مذهب أهل السنة في قوله الرحمن على العرش استوى قال بلا كيف والآثار فيه عن السلف كثيرة ، وهذه طريقة الشافعي ، وقال وأحمد بن حنبل الترمذي في الجامع عقب حديث في النزول وهو على العرش كما وصف به نفسه في كتابه ، كذا قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات ، وقال في باب فضل الصدقة قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال كيف ، كذا جاء عن أبي هريرة مالك وابن عيينة أنهم أمروها بلا كيف ، وهذا قول أهل العلم من وابن المبارك أهل السنة والجماعة ، وأما الجهمية فأنكروها وقالوا هذا تشبيه ، وقال إسحاق ابن راهويه إنما يكون التشبيه لو قيل : يد كيد وسمع كسمع ، وقال في تفسير المائدة قال الأئمة نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير ، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وقال وابن المبارك : ابن عبد البر أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ، ولم يكيفوا شيئا منها ؛ وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا من أقر بها فهو مشبه فسماهم من أقر بها معطلة ، وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية : اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن ، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله تعالى والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة ، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى . وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك ومن عاصرهم ، وكذا من أخذ عنهم من الأئمة ، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة ، وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة ، وقسم بعضهم أقوال الناس في هذا الباب إلى ستة أقوال قولان لمن يجريها على ظاهرها ؛ أحدهما من يعتقد أنها من جنس صفات المخلوقين وهم المشبهة ويتفرع من قولهم عدة آراء ، والثاني من ينفي عنها شبه صفة المخلوقين ؛ لأن والليث ذات الله لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه الصفات فإن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته ، وقولان لمن يثبت كونها صفة ولكن لا يجريها على ظاهرها ؛ أحدهما يقول لا نؤول شيئا منها بل نقول الله أعلم بمراده ، والآخر يؤول فيقول مثلا معنى الاستواء الاستيلاء ، واليد القدرة ونحو ذلك ، وقولان لمن لا يجزم بأنها صفة أحدهما يقول [ ص: 419 ] يجوز أن تكون صفة وظاهرها غير مراد ، ويجوز أن لا تكون صفة ، والآخر يقول لا يخاض في شيء من هذا بل يجب الإيمان به ؛ لأنه من المتشابه الذي لا يدرك معناه .