[ ص: 537 ] قوله ( باب قول الله تعالى والله خلقكم وما تعملون ) ذكر ابن بطال عن المهلب أن غرض nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري بهذه الترجمة إثبات أن أفعال العباد وأقوالهم مخلوقة لله تعالى ، وفرق بين الأمر بقوله كن وبين الخلق بقوله [ ص: 538 ] والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره فجعل الأمر غير الخلق وتسخيرها الذي يدل على خلقها إنما هو عن أمره ، ثم بين أن نطق الإنسان بالإيمان عمل من أعماله كما ذكر في قصة وفد عبد القيس حيث سألوا عن عمل يدخلهم الجنة فأمرهم بالإيمان وفسره بالشهادة وما ذكر معها ، وفي حديث أبي موسى المذكور " وإنما الله الذي حملكم " الرد على القدرية الذين يزعمون أنهم يخلقون أعمالهم .
قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر كذا لهم ولعله سقط منه ، وقوله تعالى وقد تقدم الكلام على هذه الآية في باب قوله تعالى قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي قال الكرماني : التقدير خلقنا كل شيء بقدر فيستفاد منه أن يكون الله خالق كل شيء كما صرح به في الآية الأخرى ، وأما قوله خلقكم وما تعملون فهو ظاهر في إثبات نسبة العمل إلى العباد فقد يشكل على الأول والجواب أن العمل هنا غير الخلق وهو الكسب الذي يكون مسندا إلى العبد حيث أثبت له فيه صنعا ، ويسند إلى الله تعالى من حيث إن وجوده إنما هو بتأثير قدرته وله جهتان ، جهة تنفي القدر ، وجهة تنفي الجبر ، فهو مسند إلى الله حقيقة وإلى العبد عادة ، وهي صفة يترتب عليها الأمر والنهي والفعل والترك ، فكل ما أسند من أفعال العباد إلى الله تعالى فهو بالنظر إلى تأثير القدرة ويقال له الخلق ، وما أسند إلى العبد إنما يحصل بتقدير الله تعالى ويقال له الكسب وعليه يقع المدح والذم كما يذم المشوه الوجه ويمدح الجميل الصورة ، وأما الثواب والعقاب فهو علامة والعبد إنما هو ملك الله تعالى يفعل فيه ما يشاء ، وقد تقدم تقرير هذا بأتم منه في باب قوله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وهذه طريقة سلكها في تأويل الآية ولم يتعرض لإعراب ما هل هي مصدرية أو موصولة ، وقد قال الطبري : فيها وجهان فمن قال مصدرية قال المعنى : والله خلقكم وخلق عملكم ، ومن قال موصولة قال : خلقكم وخلق الذي تعملون ، أي تعملون منه الأصنام وهو الخشب والنحاس وغيرهما ، ثم أسند عن قتادة ما يرجح القول الثاني وهو قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون أي بأيديكم ، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة أيضا قال تعبدون ما تنحتون أي من الأصنام والله خلقكم وما تعملون أي بأيديكم ، وتمسك المعتزلة بهذا التأويل قال السهيلي في نتائج الفكر له : اتفق العقلاء على أن أفعال العباد لا تتعلق بالجواهر والأجسام فلا تقول عملت حبلا ولا صنعت جملا ولا شجرا فإذا كان كذلك فمن قال أعجبني ما عملت فمعناه الحدث فعلى هذا لا يصح في تأويل والله خلقكم وما تعملون إلا أنها مصدرية وهو قول أهل السنة ، ولا يصح قول المعتزلة إنها موصولة فإنهم زعموا أنها واقعة على الأصنام التي كانوا ينحتونها فقالوا التقدير : خلقكم وخلق الأصنام وزعموا أن نظم الكلام يقتضي ما قالوه لتقدم قوله ما تنحتون ؛ لأنها واقعة على الحجارة المنحوتة فكذلك ما الثانية ، والتقدير عندهم : أتعبدون حجارة تنحتونها والله خلقكم وخلق تلك الحجارة التي تعملونها ، هذه شبهتهم ولا يصح ذلك من جهة النحو إذ ما لا تكون مع الفعل الخاص إلا مصدرية ، فعلى هذا فالآية ترد مذهبهم وتفسد قولهم والنظم على قول أهل السنة أبدع ، فإن قيل قد تقول عملت الصحفة وصنعت الجفنة وكذا يصح عملت الصنم قلنا لا يتعلق ذلك إلا بالصورة التي هي التأليف والتركيب وهي الفعل الذي هو الإحداث دون الجواهر بالاتفاق ولأن الآية وردت في بيان استحقاق الخالق العبادة لانفراده بالخلق وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يخلق وهم يخلقون فقال أتعبدون من لا يخلق وتدعون عبادة من خلقكم وخلق أعمالكم التي تعملون ، ولو كانوا كما زعموا لما قامت الحجة من نفس هذا الكلام ؛ لأنه لو جعلهم خالقين لأعمالهم وهو خالق للأجناس لشركهم معهم في الخلق ، تعالى الله عن إفكهم ، قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في " كتاب الاعتقاد " قال الله تعالى ذلكم الله ربكم خالق كل شيء فدخل فيه الأعيان والأفعال من الخير [ ص: 539 ] والشر ، وقال تعالى أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء فنفى أن يكون خالق غيره ، ونفى أن يكون شيء سواه غير مخلوق ، فلو كانت الأفعال غير مخلوقة له لكان خالق بعض الأشياء لا خالق كل شيء ، وهو بخلاف الآية ، ومن المعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان فلو كان الله خالق الأعيان ، والناس خالق الأفعال لكان مخلوقات الناس أكثر من مخلوقات الله ، تعالى الله عن ذلك . وقال الله تعالى والله خلقكم وما تعملون وقال مكي بن أبي طالب في إعراب القرآن له قالت المعتزلة ما في قوله تعالى وما تعملون موصولة فرارا من أن يقروا بعموم الخلق لله تعالى ، يريدون أنه خلق الأشياء التي تنحت منها الأصنام ، وأما الأعمال والحركات فإنها غير داخلة في خلق الله ، وزعموا أنهم أرادوا بذلك تنزيه الله تعالى عن خلق الشر ، ورد عليهم أهل السنة بأن الله تعالى خلق إبليس وهو الشر كله ، وقال تعالى قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق فأثبت أنه خلق الشر ، وأطبق القراء حتى أهل الشذوذ على إضافة شر إلى " ما " إلا nindex.php?page=showalam&ids=16711عمرو بن عبيد رأس الاعتزال فقرأها بتنوين " شر ليصحح مذهبه ، وهو محجوج بإجماع من قبله على قراءتها بالإضافة ، قال : وإذا تقرر أن الله خالق كل شيء من خير وشر وجب أن تكون " ما " مصدرية ، والمعنى خلقكم وخلق عملكم انتهى . وقوى صاحب الكشاف مذهبه بأن قوله وما تعملون ترجمة عن قوله قبلها " ما تنحتون " و " ما " في قوله : " ما تنحتون " موصولة اتفاقا ، فلا يعدل بـ " ما " التي بعدها عن أختها ، وأطال في تقرير ذلك ، ومن جملته فإن قلت ما أنكرت أن تكون ما مصدرية والمعنى : خلقكم وخلق عملكم كما تقول المجبرة يعني أهل السنة ، قلت : أقرب ما يبطل به أن معنى الآية يأباه إباء جليا ؛ لأن الله احتج عليهم بأن العابد والمعبود جميعا خلق الله فكيف يعبد المخلوق مع أن العابد هو الذي عمل صورة المعبود ولولاه لما قدر أن يشكل نفسه ، فلو كان التقدير خلقكم وخلق عملكم لم يكن فيه حجة عليهم ، ثم قال : فإن قلت هي موصولة لكن التقدير : والله خلقكم وما تعملونه من أعمالكم قلت : ولو كان كذلك لم يكن فيها حجة على المشركين ، وتعقبه ابن خليل السكوني فقال : في كلامه صرف للآية عن دلالتها الحقيقية إلى ضرب من التأويل لغير ضرورة بل لنصرة مذهبه أن العباد يخلقون أكسابهم ، فإذا حملها على الأصنام لم تتناول الحركات ، وأما أهل السنة فيقولون : القرآن نزل بلسان العرب وأئمة العربية على أن الفعل الوارد بعد " ما " يتأول بالمصدر ، نحو : أعجبني ما صنعت : أي صنعك ، وعلى هذا فمعنى الآية خلقكم وخلق أعمالكم ، والأعمال ليست هي جواهر الأصنام اتفاقا ، فمعنى الآية عندهم إذا كان الله خالق أعمالكم التي تتوهم القدرية أنهم خالقون لها فأولى أن يكون خالقا لما لم يدع فيه أحد الخلقية وهي الأصنام ، قال : ومدار هذه المسألة على أن الحقيقة مقدمة على المجاز ولا أثر للمرجوح مع الراجح وذلك أن الخشب التي منها الأصنام والصور التي للأصنام ليست بعمل لنا وإنما عملنا ما أقدرنا الله عليه من المعاني المكسوبة التي عليها ثواب العباد وعقابهم ، فإذا قلت : عمل النجار السرير فالمعنى عمل حركات في محل أظهر الله لنا عندها التشكل في السرير ، فلما قال تعالى والله خلقكم وما تعملون وجب حمله على الحقيقة وهي معمولكم ، وأما ما يطالب به المعتزلي من الرد على المشركين من الآية فهو من أبين شيء ؛ لأنه تعالى إذا أخبر أنه خلقنا وخلق أعمالنا التي يظهر بها التأثير بين أشكال الأصنام وغيرها فأولى أن يكون خالقا للمتأثر الذي لم يدع فيه أحد لا سني ولا معتزلي ، ودلالة الموافقة أقوى في لسان العرب وأبلغ من غيرها وقد وافق nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري على ذلك في قوله تعالى فلا تقل لهما أف فإنه أدل على نفي الضرب من أن لو قال : ولا تضربهما ، وقال إنها من نكت علم البيان ثم غفل عنها اتباعا لهواه ، وأما ادعاؤه فك النظم فلا يلزم منه بطلان الحجة ؛ لأن فكه لما هو أبلغ سائغ [ ص: 540 ] بل أكمل لمراعاة البلاغة ، ثم قال : ولم لا تكون الآية مخبرة عن أن كل عمل للعبد فهو خلق للرب فيندرج فيه الرد على المشركين مع مراعاة النظم ، ومن قيد الآية بعمل العبد دون عمل فعليه الدليل والأصل عدمه وبالله التوفيق . وأجاب nindex.php?page=showalam&ids=13926البيضاوي بأن دعوى أنها مصدرية أبلغ ؛ لأن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى فالمتوقف على فعلهم أولى بذلك ، ويترجح أيضا بأن غيره لا يخلو من حذف أو مجاز وهو سالم من ذلك والأصل عدمه ، وقال الطيبي : وتكملة ذلك أن يقال تقرر عند علماء البيان أن الكناية أولى من التصريح فإذا نفى الحكم العام لينتفي الخاص كان أقوى في الحجة ، وقد سلك صاحب الكشاف هذا بعينه في تفسير قوله تعالى كيف تكفرون بالله الآية وقال ابن المنير : يتعين حمل " ما " على المصدرية ؛ لأنهم لم يعبدوا الأصنام من حيث هي حجارة أو خشب عارية عن الصورة بل عبدوها لأشكالها وهي أثر عملهم ولو عملوا نفس الجواهر لما طابق توبيخهم بأن المعبود من صنعة العابد قال والمخالفون موافقون أن جواهر الأصنام ليست عملا لهم فلو كان كما ادعوه لاحتاج إلى حذف أي والله خلقكم وما تعملون شكله وصورته ، والأصل عدم التقدير وقد جاء التصريح في الحديث الصحيح بمعنى الذي تقدمت الإشارة إليه في باب قوله " كل يوم هو في شأن " عن حذيفة رفعه nindex.php?page=hadith&LINKID=3504336أن الله خلق كل صانع وصنعته وقال غيره قول من ادعى أن المراد بقوله وما تعملون نفس العيدان والمعادن التي تعمل منها الأوثان باطل ؛ لأن أهل اللغة لا يقولون إن الإنسان يعمل العود أو الحجر بل يقيدون ذلك بالصنعة فيقولون عمل العود صنما والحجر وثنا ، فمعنى الآية أن الله خلق الإنسان وخلق شكل الصنم وأما الذي نحت أو صاغ فإنما هو عمل النحت والصياغة وقد صرحت الآية بذلك ، والذي عمله هو الذي وقع التصريح بأن الله تعالى هو الذي خلقه وقال التونسي في مختصر تفسير الفخر الرازي : احتج الأصحاب بهذه الآية على أن عمل العبيد مخلوق لله على إعراب ما " مصدرية وأجاب المعتزلة بأن إضافة العبادة والنحت لهم إضافة الفعل للفاعل ولأنه وبخهم ولو لم تكن الأفعال لخلقهم لما وبخهم ، قالوا : ولا نسلم أنها مصدرية ؛ لأن الأخفش يمنع أعجبني ما قمت أي قيامك وقال إنه خاص بالمتعدي سلمنا جوازه لكن لا يمنع ذلك من تقدير " ما مفعولا للنحاتين ولموافقة ما ينحتون ولأن العرب تسمي محل العمل عملا فتقول في الباب هو عمل فلان ولأن القصد هو تزييف عبادتهم لا بيان أنهم لا يوجدون أعمال أنفسهم قال وهذه شبهة قوية فالأولى أن لا يستدل بهذه الآية لهذا المراد كذا قال ، وجرى على عادته في إيراد شبه المخالفين وترك بذل الوسع في أجوبتها ، وقد أجاب الشمس الأصبهاني في تفسيره وهو ملخص من تفسير الفخر فقال : وما تعملون : أي عملكم وفيها دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله وعلى أنها مكتسبة للعباد حيث أثبت لهم عملا فأبطلت مذهب القدرية والجبرية معا وقد رجح بعض العلماء كونها مصدرية ؛ لأنهم لم يعبدوا الأصنام إلا لعملهم لا لجرم الصنم وإلا لكانوا يعبدونها قبل العمل فكأنهم عبدوا العمل فأنكر عليهم عبادة المنحوت الذي لم ينفك عن العمل المخلوق وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية في الرد على الرافضي : لا نسلم أنها موصولة ولكن لا حجة فيها للمعتزلة ؛ لأن قوله تعالى والله خلقكم يدخل فيه ذاتهم وصفاتهم وعلى هذا إذا كان التقدير والله خلقكم وخلق الذي تعملونه إن كان المراد خلقه لها قبل النحت لزم أن يكون المعمول غير مخلوق وهو باطل فثبت أن المراد خلقه لها قبل النحت وبعده وأن الله خلقها بما فيها من التصوير والنحت فثبت أنه خالق ما تولد عن فعلهم ففي الآية دلالة على أنه تعالى خلق أفعالهم القائمة بهم وخلق ما تولد عنها ووافق على ترجيح أنها موصولة من جهة أن السياق يقتضي أنه أنكر عليهم عبادة المنحوت فناسب أن ينكر ما يتعلق بالمنحوت وأنه مخلوق له فيكون التقدير الله خالق العابد والمعبود وتقدير : خلقكم وخلق أعمالكم ، يعني إذا أعربت مصدرية ليس فيه ما يقتضي ذمهم [ ص: 541 ] على ترك عبادته والعلم عند الله تعالى وقد ارتضى الشيخ سعد الدين التفتازاني هذه الطريق وأوضحها ونقحها فقال في شرح العقائد له بعد أن ذكر أصل المسألة وأدلة الفريقين ومنها استدلال أهل السنة بالآية المذكورة والله خلقكم وما تعملون قالوا : معناه وخلق عملكم على إعراب ما مصدرية ورجحوا ذلك لعدم احتياجه إلى حذف الضمير قال : فيجوز أن يكون المعنى وخلق معمولكم على إعرابها موصولة ويشمل أعمال العباد ؛ لأنا إذا قلنا إنها مخلوقة لله أو للعبد لم يرد بالفعل المعنى المصدري الذي هو الإيجاد بل الحاصل بالمصدر الذي هو متعلق الإيجاد وهو ما يشاهده من الحركات والسكنات : قال وللذهول عن هذه النكتة توهم من توهم أن الاستدلال بالآية موقوف على كون ما مصدرية وليس الأمر كذلك .
( تكملة ) :
جوز من صنف في إعراب القرآن في إعراب " ما تعملون " زيادة على ما تقدم قالوا : واللفظ للمنتخب في " ما " أوجه أحدها : أن تكون مصدرية منصوبة المحل عطفا على الكاف والميم في " خلقكم " ، الثاني أن تكون موصولة في موضع نصب أيضا عطفا على المذكور آنفا ، والتقدير : خلقكم والذي تعملون أي تعملون منه الأصنام يعني الخشب والحجارة وغيرها ، الثالث : أن تكون استفهامية منصوبة المحل بقوله " تعملون " توبيخا لهم وتحقيرا لعملهم ، الرابع : أن تكون نكرة موصوفة وحكمها حكم الموصولة ، الخامس : أن تكون نافية على معنى " وما تعملون ذلك " لكن الله هو خلقه ، ثم قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : وقد قال الله تعالى خلق كل شيء وهو بكل شيء عليم فامتدح بأنه خلق كل شيء وبأنه يعلم كل شيء فكما لا يخرج عن علمه شيء وكذا لا يخرج عن خلقه شيء ، وقال تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ، ألا يعلم من خلق فأخبر أن قولهم سرا وجهرا خلقه ؛ لأنه بجميع ذلك عليم ، وقال تعالى خلق الموت والحياة وقال وأنه هو أمات وأحيا فأخبر أنه المحيي المميت وأنه خلق الموت والحياة فثبت أن الأفعال كلها خيرها وشرها صادرة عن خلقه وإحداثه إياها وقال تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ، وقال تعالى أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون فسلب عنهم هذه الأفعال وأثبتها لنفسه ليدل بذلك على أن المؤثر فيها حتى صارت موجودة بعد العدم هو خلقه ، وأن الذي يقع من الناس إنما هو مباشرة تلك الأفعال بقدرة حادثة أحدثها على ما أراد ، فهي من الله تعالى خلق بمعنى الاختراع بقدرته القديمة ، ومن العباد كسب على معنى تعلق قدرة حادثة بمباشرتهم التي هي كسبهم ووقوع هذه الأفعال على وجوده بخلاف فعل مكتسبها أحيانا من أعظم الدلالة على موقع أوقعها على ما أراد ، ثم ساق حديث حذيفة المشار إليه ثم قال : وأما ما ورد في حديث دعاء الافتتاح في أول الصلاة والشر ليس إليك ، فمعناه كما قال النضر بن شميل : والشر لا يتقرب به إليك ، وقال غيره أرشد إلى استعمال الأدب في الثناء على الله تعالى بأن يضاف إليه محاسن الأمور دون مساويها ، وقد وقع في نفس هذا الحديث : والمهدى من هديت فأخبر أنه يهدي من شاء كما وقع التصريح به في القرآن ، وقال في حديث أبي سعيد الماضي في الأحكام الذي في أوله : أن كل وال له بطانتان والمعصوم من عصم الله ، فدل على أنه يعصم قوما دون قوم ، وقال غيره يستحيل أن يصلح قدرة العباد للإبراز من العدم إلى الوجود وهو المعبر عنه بالاختراع وثبوته لله سبحانه وتعالى قطعي ؛ لأن قدرة الإبراز من العدم إلى الوجود تتوجه إلى تحصيل ما ليس بحاصل فحال توجيهها لا بد من وجودها لاستحالة أن يحصل العدم شيئا ، فقدرته ثابتة وقدرة المخلوقين عرض لا بقاء له فيستحيل تقدمها ، وقد تواردت النقول السمعية والقرآن والأحاديث الصحيحة بانفراد الرب سبحانه وتعالى بالاختراع كقوله تعالى هل من خالق غير الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ، ومن الدليل على أن الله تعالى يحكم في خلقه بما يشاء ولا تتوقف أحكامه [ ص: 542 ] في ثوابهم وعقابهم على أن يكونوا خالقين لأفعالهم أنه نصب الثواب والعقاب على ما يقع مباينا لمحال قدرتهم ، وأما اكتساب العباد فلا يقع إلا في محل الكسب ، ومثال ذلك السهم الذي يرميه العبد لا تصرف له فيه بالرفع ، وكذلك لا تصرف له فيه بالوضع ، وأيضا فإن إرادة الله سبحانه وتعالى تتعلق بما لا نهاية له على وجه النفوذ وعدم التعذر ، وإرادة العبد لا تتعلق بذلك مع تسميتها إرادة ، وكذلك علمه تعالى لا نهاية له على سبيل التفصيل ، وعلم العبد لا يتعلق بذلك مع تسميته علما . فصل : احتج بعض المبتدعة بقوله تعالى الله خالق كل شيء على أن القرآن مخلوق ؛ لأنه شيء ، وتعقب ذلك نعيم بن حماد وغيره من أهل الحديث بأن القرآن كلام الله وهو صفته فكما أن الله لم يدخل في عموم قوله كل شيء اتفاقا فكذلك صفاته ، ونظير ذلك قوله تعالى ويحذركم الله نفسه مع قوله تعالى كل نفس ذائقة الموت فكما لم تدخل نفس الله في هذا العموم اتفاقا فكذا لا يدخل القرآن .
قوله : ويقال للمصورين أحيوا ما خلقتم ) كذا للأكثر وهو المحفوظ ، ووقع في رواية الكشميهني " ويقول " أي الله سبحانه أو الملك بأمره ، وقال الكرماني لفظ الحديث الموصول في الباب " ويقال لهم " فأظهر nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري مرجع الضمير انتهى . وسيأتي الكلام على نسبة الخلق إليهم في آخر الباب .
قوله : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض - إلى - تبارك الله رب العالمين ) ساق في رواية كريمة الآية كلها ، والمناسب منها لما تقدم قوله تعالى ألا له الخلق والأمر فيصح به قول الله خالق كل شيء ولذلك عقبه بقوله قال ابن عيينة بين الله الخلق من الأمر بقوله تعالى ألا له الخلق والأمر وهذا الأثر وصله ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية من طريق بشار بن موسى قال : كنا عند سفيان بن عيينة فقال ألا له الخلق والأمر ، فالخلق هو المخلوقات والأمر هو الكلام ، ومن طريق حماد بن نعيم سمعت سفيان بن عيينة وسئل عن القرآن أمخلوق هو ؟ فقال : يقول الله تعالى ألا له الخلق والأمر ألا ترى كيف فرق بين الخلق والأمر ، فالأمر كلامه فلو كان كلامه مخلوقا لم يفرق . قلت : وسبق ابن عيينة إلى ذلك nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي وتبعه الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وعبد السلام بن عاصم وطائفة أخرج كل ذلك ابن أبي حاتم عنهم ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في كتاب خلق أفعال العباد " خلق الله الخلق بأمره " لقوله تعالى لله الأمر من قبل ومن بعد ولقوله إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ولقوله ومن آياته أن تقوم السماوات والأرض بأمره قال : وتواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القرآن كلام الله وأن أمر الله قبل مخلوقاته ، قال : ولم يذكر عن أحد من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان خلاف ذلك وهم الذين أدوا إلينا الكتاب والسنة قرنا بعد قرن ولم يكن بين أحد من أهل العلم في ذلك خلاف إلى زمان مالك nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري وحماد وفقهاء الأمصار ومضى على ذلك من أدركنا من علماء الحرمين والعراقين والشام ومصر وخراسان ، وقال عبد العزيز بن يحيى المكي في مناظرته nindex.php?page=showalam&ids=15211لبشر المريسي بعد أن تلا الآية المذكورة : أخبر الله تعالى عن الخلق أنه مسخر بأمره ، فالأمر هو الذي كان الخلق مسخرا به فكيف يكون الأمر مخلوقا ، وقال تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون فأخبر أن الأمر متقدم على الشيء المكون ، وقال لله الأمر من قبل ومن بعد أي من قبل خلق الخلق ومن بعد خلقهم وموتهم بدأهم بأمره ويعيدهم بأمره ، وقال غيره لفظ الأمر يرد لمعان ، منها الطلب ومنها الحكم ومنها الحال والشأن ومنها المأمور كقوله تعالى فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك أي مأموره وهو إهلاكهم ، واستعمال المأمور بلفظ الأمر كاستعمال المخلوق بمعنى الخلق ، وقال الراغب : الأمر لفظ عام [ ص: 543 ] للأفعال والأقوال كلها ، ومنه قوله تعالى وإليه يرجع الأمر كله ويقال للإبداع أمر نحو قوله تعالى ألا له الخلق والأمر وعلى ذلك حمل بعضهم قوله تعالى قل الروح من أمر ربي أي هو من إبداعه ، ويختص ذلك بالله تعالى دون الخلائق وقوله إنما قولنا لشيء إذا أردناه إشارة إلى إبداعه وعبر عنه بأقصر لفظ وأبلغ ما نتقدم به فيما بيننا بفعل الشيء ، ومنه وما أمرنا إلا واحدة فعبر عن سرعة إيجاده بأسرع ما يدركه وهمنا ، والأمر التقدم بالشيء سواء كان ذلك بقول افعل أو لتفعل أو بلفظ خبر نحو والمطلقات يتربصن أو بإشارة أو غير ذلك كتسميته ما رأى إبراهيم أمرا حيث قال ابنه ياأبت افعل ما تؤمر وأما قوله وما أمر فرعون برشيد فعام في أقواله وأفعاله ، وقوله أتى أمر الله إشارة إلى يوم القيامة فذكره بأعم الألفاظ ، وقوله بل سولت لكم أنفسكم أمرا أي ما تأمر به النفس الأمارة انتهى . وفي بعض ما ذكره نظر لا سيما في تفسير الأمر في آية الباب بالإبداع ، والمعروف فيه ما نقل عن ابن عيينة وعلى ما قال الراغب " يكون الأمر في الآية من عطف الخاص على العام " وقد قال بعض المفسرين : المراد بالأمر بعد الخلق تصريف الأمور ، وقال بعضهم المراد بالخلق في الآية : الدنيا وما فيها ، وبالأمر : الآخرة وما فيها ، فهو كقوله أتى أمر الله .
قوله : وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عملا ) تقدم بيان هذا في باب من قال الإيمان هو العمل من " كتاب الإيمان " أول الجامع .
قوله : وقال جزاء بما كانوا يعملون ) أي من الإيمان والصلاة وسائر الطاعات ، فسمى الإيمان عملا حيث أدخله في جملة الأعمال .
قوله ( وقال وفد عبد القيس إلى أن قال فجعل ذلك كله عملا ) سيأتي ذلك موصولا بعد حديث ، ثم ذكر في الباب خمسة أحاديث مسندة .
الأول : حديث nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري في قصة الذين طلبوا الحملان فقال صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=848891لست أنا أحملكم ولكن الله حملكم ، وقد تقدم شرحه في " كتاب الإيمان " و " nindex.php?page=showalam&ids=16503عبد الوهاب " في السند هو ابن عبد المجيد الثقفي وليس هو والد عبد الله بن عبد الوهاب العبدري الحجبي الراوي عنه هنا ، " والقاسم التميمي " هو ابن عاصم و " زهدم " هو ابن مضرب بتشديد الراء ، وقوله " يأكل فقذرته " زاد الكشميهني " يأكل شيئا " وقوله " فحلفت لا آكله " في رواية الكشميهني " أن لا آكله " وقوله " فلأحدثك " وقع لغير الكشميهني " فلأحدثنك " بالنون المؤكدة ، والمراد منه نسبة الحمل إلى الله تعالى وإن كان الذي باشر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فهو كقوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وقد تقدم توجيهه قريبا .