صفحة جزء
باب قول الله تعالى وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال ابن عباس شكركم

991 حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب
[ ص: 607 ] قوله : ( باب قول الله تعالى وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال ابن عباس شكركم ) يحتمل أن يكون مراده أن ابن عباس قرأها كذلك ، ويشهد له ما رواه سعيد بن منصور " عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقرأ وتجعلون شكركم أنكم تكذبون " وهذا إسناد صحيح ، ومن هذا الوجه أخرجه ابن مردويه في التفسير المسند ، وروى مسلم من طريق أبي زميل عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فذكر نحو حديث زيد بن خالد في الباب وفي آخره " فأنزلت هذه الآية : فلا أقسم بمواقع النجوم ، إلى قوله : تكذبون " وعرف بهذا مناسبة الترجمة وأثر ابن عباس لحديث زيد بن خالد ، وقد روي نحو أثر ابن عباس المعلق مرفوعا من حديث علي لكن سياقه يدل على التفسير لا على القراءة ، أخرجه عبد بن حميد من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن علي مرفوعا وتجعلون رزقكم ، قال : تجعلون شكركم ، تقولون مطرنا بنوء كذا وقد قيل في القراءة المشهورة حذف تقديره وتجعلون شكر رزقكم . وقال الطبري : المعنى وتجعلون الرزق الذي وجب عليكم به الشكر تكذيبكم به ، وقيل بل الرزق بمعنى الشكر في لغة أزد شنوءة نقله الطبري عن الهيثم بن عدي .

قوله : ( عن زيد بن خالد الجهني ) هكذا يقول صالح بن كيسان لم يختلف عليه في ذلك ، وخالفه الزهري فرواه عن شيخهما عبيد الله فقال : عن أبي هريرة أخرجه مسلم عقب رواية صالح فصحح الطريقين ؛ لأن عبيد الله سمع من زيد بن خالد وأبي هريرة جميعا عدة أحاديث منها حديث العسيف وحديث الأمة إذا زنت ، فلعله سمع هذا منهما فحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا ، وإنما لم يجمعهما لاختلاف لفظهما كما سنشير إليه . وقد صرح صالح بسماعه له من عبيد الله عن أبي عوانة ، وروى صالح عن عبيد الله بواسطة الزهري عدة أحاديث منها حديث ابن عباس في شاة ميمونة كما تقدم في الطهارة ، وحديثه عنه في قصة هرقل كما تقدم في بدء الوحي .

قوله : ( صلى لنا ) أي لأجلنا ، أو اللام بمعنى الباء أي صلى بنا ، وفيه جواز إطلاق ذلك مجازا وإنما الصلاة لله تعالى .

قوله : ( بالحديبية ) بالمهملة والتصغير وتخفف ياؤها وتثقل ، يقال سميت بشجرة حدباء هناك .

قوله : ( على إثر ) بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهور وهو ما يعقب الشيء .

قوله : ( سماء ) أي مطر وأطلق عليه سماء لكونه ينزل من جهة السماء وكل جهة علو تسمى سماء .

قوله : ( كانت من الليل ) كذا للأكثر ، وللمستملي والحموي " من الليلة " بالإفراد .

قوله : ( فلما انصرف ) أي من صلاته أو من مكانه .

[ ص: 608 ] قوله : ( هل تدرون ) لفظ استفهام معناه التنبيه ، ووقع في رواية سفيان عن صالح عند النسائي ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة وهذا من الأحاديث الإلهية وهي تحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها عن الله بلا واسطة أو بواسطة .

قوله : ( أصبح من عبادي ) هذه إضافة عموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر بخلاف مثل قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان فإنها إضافة تشريف .

قوله : ( مؤمن بي وكافر ) يحتمل أن يكون المراد بالكفر هنا كفر الشرك بقرينة مقابلته بالإيمان ، ولأحمد من رواية نصر بن عاصم الليثي عن معاوية الليثي مرفوعا يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقا من السماء من رزقه فيصبحون مشركين يقولون : مطرنا بنوء كذا ويحتمل أن يكون المراد به كفر النعمة ، ويرشد إليه قوله في رواية معمر عن صالح عن سفيان فأما من حمدني على سقياي وأثنى عليه فذلك آمن بي وفي رواية سفيان عند النسائي والإسماعيلي نحوه ، وقال في آخره : وكفر بي " أو قال " كفر نعمتي " وفي رواية أبي هريرة عند مسلم قال الله : ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم كافرين بها وله في حديث ابن عباس " أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر " وعلى الأول حمله كثير من أهل العلم ، وأعلى ما وقفت عليه من ذلك كلام الشافعي ، قال في " الأم " : من قال مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه مطر نوء كذا فذلك كفر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن النوء وقت والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا ، ومن قال مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفرا ، وغيره من الكلام أحب إلي منه ، يعني حسما للمادة ، وعلى ذلك يحمل إطلاق الحديث ، وحكى ابن قتيبة في " كتاب الأنواء " أن العرب كانت في ذلك على مذهبين على نحو ما ذكر الشافعي ، قال : ومعنى النوء سقوط نجم في المغرب من النجوم الثمانية والعشرين التي هي منازل القمر ، قال : وهو مأخوذ من ناء إذا سقط ، وقال آخرون : بل النوء طلوع نجم منها ، وهو مأخوذ من ناء إذا نهض ، ولا تخالف بين القولين في الوقت لأن كل نجم منها إذا طلع في المشرق وقع حال طلوعه آخر في المغرب لا يزال ذلك مستمرا إلى أن تنتهي الثمانية والعشرون بانتهاء السنة ، فإن لكل واحد منها ثلاثة عشر يوما تقريبا ، قال : وكانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النوء إما بصنعه على زعمهم وإما بعلامته ، فأبطل الشرع قولهم وجعله كفرا ، فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعا في ذلك فكفره كفر تشريك ، وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة فليس بشرك لكن يجوز إطلاق الكفر عليه وإرادة كفر النعمة لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشرك واسطة ، فيحمل الكفر فيه على المعنيين لتناول الأمرين ، والله أعلم . ولا يرد الساكت ؛ لأن المعتقد قد يشكر بقلبه أو يكفر ، وعلى هذا فالقول في قوله : فأما من قال " لما هو أعم من النطق والاعتقاد ، كما أن الكفر فيه لما هو أعم من كفر الشرك وكفر النعمة ، والله أعلم بالصواب .

قوله : ( مطرنا بنوء كذا وكذا ) في حديث أبي سعيد عند النسائي " مطرنا بنوء المجدح " بكسر الميم وسكون الجيم وفتح الدال بعدها مهملة ويقال بضم أوله هو الدبران بفتح المهملة والموحدة بعدها ، وقيل سمي بذلك لاستدباره الثريا ، وهو نجم أحمر صغير منير . قال ابن قتيبة : كل النجوم المذكورة له نوء غير [ ص: 609 ] أن بعضها أحمر وأغزر من بعض ، ونوء الدبران غير محمود عندهم ، انتهى .

وكأن ذلك ورد في الحديث تنبيها على مبالغتهم في نسبة المطر إلى النوء ولو لم يكن محمودا ، أو اتفق وقوع ذلك المطر في ذلك الوقت إن كانت القصة واحدة . وفي مغازي الواقدي أن الذي قال في ذلك الوقت " مطرنا بنوء الشعرى " هو عبد الله بن أبي المعروف بابن سلول أخرجه من حديث أبي قتادة . وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم طرح الإمام المسألة على أصحابه وإن كانت لا تدرك إلا بدقة النظر . ويستنبط منه أن للولي المتمكن من النظر في الإشارة >[1] أن يأخذ منها عبارات ينسبها إلى الله تعالى >[2] كذا قرأت بخط بعض شيوخنا ، وكأنه أخذه من استنطاق النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عما قال ربهم وحمل الاستفهام فيه على الحقيقة ، لكنهم - رضي الله عنهم - فهموا خلاف ذلك ، ولهذا لم يجيبوا إلا بتفويض الأمر إلى الله ورسوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية