قوله : ( باب زيارة القبور ) ؛ أي مشروعيتها ، وكأنه لم يصرح بالحكم لما فيه من الخلاف كما سيأتي ، وكأن المصنف لم يثبت على شرطه الأحاديث المصرحة بالجواز ، وقد أخرجه مسلم من حديث بريدة ، وفيه نسخ النهي عن ذلك ، ولفظه : nindex.php?page=hadith&LINKID=885724كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها . وزاد أبو داود ، nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي من حديث أنس ، فإنها تذكر الآخرة . nindex.php?page=showalam&ids=14070وللحاكم من حديثه فيه : وترق القلب ، وتدمع العين ، فلا تقولوا هجرا . أي كلاما فاحشا ، وهو بضم الهاء وسكون الجيم ، وله من حديث ابن مسعود : فإنها تزهد في الدنيا . ولمسلم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة مرفوعا : nindex.php?page=hadith&LINKID=885725زوروا القبور فإنها تذكر الموت . قال النووي تبعا للعبدي nindex.php?page=showalam&ids=14065والحازمي وغيرهما : اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة . كذا أطلقوا ، وفيه نظر ، لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين ، nindex.php?page=showalam&ids=12377وإبراهيم النخعي ، nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي الكراهة مطلقا ، حتى قال الشعبي : لولا نهي النبي صلى الله عليه وسلم لزرت قبر ابنتي . فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر عليه الأمر بعد هؤلاء ، وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ ، والله أعلم . ومقابل هذا قول nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم : إن زيارة القبور واجبة ، ولو مرة واحدة في العمر ؛ لورود الأمر به . واختلف في النساء ، فقيل : دخلن في عموم الإذن ، وهو قول الأكثر ، ومحله ما إذا أمنت الفتنة ، ويؤيد الجواز حديث الباب ، وموضع الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر ، وتقريره حجة . وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة ، فروى nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم من طريق nindex.php?page=showalam&ids=12531ابن أبي مليكة أنه nindex.php?page=hadith&LINKID=3502644رآها زارت قبر أخيها عبد الرحمن ، فقيل لها : أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ قالت : نعم ، كان نهى ، ثم أمر بزيارتها . وقيل : الإذن خاص بالرجال ، ولا يجوز للنساء زيارة القبور ، وبه جزم الشيخ [ ص: 178 ] أبو إسحاق في " المهذب " ، واستدل له بحديث عبد الله بن عمرو الذي تقدمت الإشارة إليه في " باب اتباع النساء الجنائز " ، وبحديث : nindex.php?page=hadith&LINKID=885726لعن الله زوارات القبور . أخرجه الترمذي ، وصححه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، وله شاهد من حديث ابن عباس ، ومن حديث حسان بن ثابت . واختلف من قال بالكراهة في حقهن : هل هي كراهة تحريم أو تنزيه ؟ قال القرطبي : هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصفة من المبالغة ، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج ، وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك ، فقد يقال : إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن ، لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء .
قوله : ( فقال : اتقي الله ) في رواية أبي نعيم في المستخرج ، فقال : يا أمة الله ، اتقي الله . قال القرطبي : الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره ، ولهذا أمرها بالتقوى . قلت : يؤيده أن في مرسل nindex.php?page=showalam&ids=17298يحيى بن أبي كثير المذكور : " فسمع منها ما يكره ، فوقف عليها " . وقال الطيبي : قوله : " اتقي الله " توطئة لقوله : " واصبري " ، كأنه قيل لها : خافي غضب الله إن لم تصبري ، ولا تجزعي ليحصل لك الثواب .
قوله : ( إليك عني ) هو من أسماء الأفعال ، ومعناها تنح وابعد .
قوله : ( ولم تعرفه ) جملة حالية ؛ أي : خاطبته بذلك ولم تعرف أنه رسول الله .
قوله : ( فقيل لها ) في رواية الأحكام : nindex.php?page=hadith&LINKID=885731فمر بها رجل ، فقال لها : إنه رسول الله . فقالت : ما عرفته . وفي رواية أبي يعلى المذكورة : " قال : فهل تعرفينه ؟ قالت : لا " . nindex.php?page=showalam&ids=14687وللطبراني في الأوسط من طريق عطية ، عن أنس أن الذي سألها هو nindex.php?page=showalam&ids=69الفضل بن العباس ، وزاد مسلم في رواية له : " فأخذها مثل الموت " ؛ أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه صلى الله عليه وسلم ، خجلا منه ومهابة .
قوله : ( فلم تجد عنده بوابين ) في رواية الأحكام : " بوابا " بالإفراد ، قال الزين بن المنير : فائدة هذه الجملة من هذا الخبر بيان عذر هذه المرأة في كونها لم تعرفه ، وذلك أنه كان من شأنه أن لا يتخذ بوابا مع قدرته على ذلك تواضعا ، وكان من شأنه لا يستتبع الناس وراءه إذا مشى كما جرت عادة الملوك والأكابر ، فلذلك اشتبه على المرأة ، فلم تعرفه مع ما كانت فيه من شاغل الوجد والبكاء . وقال الطيبي : فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها : إنه النبي صلى الله عليه وسلم ، استشعرت خوفا وهيبة في نفسها ، فتصورت أنه مثل الملوك له حاجب وبواب يمنع الناس من الوصول إليه ، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته .
قوله : ( فقالت : لم أعرفك ) في حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة " فقالت : والله ما عرفتك " .
[ ص: 179 ] قوله : ( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) في رواية الأحكام : " عند أول صدمة " . ونحوه لمسلم ، والمعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع ، فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر . وأصل الصدم : ضرب الشيء الصلب بمثله ، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب ، قال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي : المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة ، بخلاف ما بعد ذلك ، فإنه على الأيام يسلو . وحكى nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي عن غيره أن المرء لا يؤجر على المصيبة ؛ لأنها ليست من صنعه ، وإنما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره . وقال ابن بطال : أراد أن لا يجتمع عليها مصيبة الهلاك ، وفقد الأجر . وقال الطيبي : صدر هذا الجواب منه صلى الله عليه وسلم عن قولها : لم أعرفك على أسلوب الحكيم ، كأنه قال لها : دعي الاعتذار فإني لا أغضب لغير الله ، وانظري لنفسك . وقال الزين بن المنير : . فائدة جواب المرأة بذلك أنها لما جاءت طائعة لما أمرها به من التقوى والصبر ، معتذرة عن قولها الصادر عن الحزن ، بين لها أن حق هذا الصبر أن يكون في أول الحال ، فهو الذي يترتب عليه الثواب . انتهى . ويؤيده أن في رواية nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة المذكورة : " فقالت أنا أصبر ، أنا أصبر " . وفي مرسل nindex.php?page=showalam&ids=17298يحيى بن أبي كثير المذكور ، فقال : nindex.php?page=hadith&LINKID=885732اذهبي إليك ، فإن الصبر عند الصدمة الأولى . وزاد عبد الرزاق فيه من مرسل الحسن : والعبرة لا يملكها ابن آدم . وذكر هذا الحديث في زيارة القبور مع احتمال أن تكون المرأة المذكورة تأخرت بعد الدفن عند القبر ، والزيارة إنما تطلق على من أنشأ إلى القبر قصدا من جهة استواء الحكم في حقها ، حيث أمرها بالتقوى والصبر لما رأى من جزعها ، ولم ينكر عليها الخروج من بيتها ، فدل على أنه جائز ، وهو أعم من أن يكون خروجها لتشييع ميتها ، فأقامت عند القبر بعد الدفن ، أو أنشأت قصد زيارته بالخروج بسبب الميت .
( تنبيه ) : قال الزين بن المنير : قدم المصنف ترجمة زيارة القبور على غيرها من أحكام تشييع الجنازة وما بعد ذلك مما يتقدم الزيارة ، لأن الزيارة يتكرر وقوعها فجعلها أصلا ومفتاحا لتلك الأحكام . انتهى ملخصا . وأشار أيضا إلى أن مناسبة ترجمة زيارة القبور تناسب اتباع النساء الجنائز ، فكأنه أراد حصر الأحكام المتعلقة بخروج النساء متوالية . والله أعلم .