[ ص: 39 ] قوله : ( باب : إذا أهدى ) أي : الحلال ( للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل ) كذا قيده في الترجمة بكونه حيا ، وفيه إشارة إلى أن الرواية التي تدل على أنه كان مذبوحا موهمة ، وسأبين ما في ذلك إن شاء الله تعالى .
قوله : ( عن ابن شهاب إلخ ) لم يختلف على مالك في سياقه معنعنا وأنه من مسند الصعب إلا ما وقع في " موطأ ابن وهب " فإنه قال في روايته عن ابن عباس : " إن الصعب بن جثامة أهدى " فجعله من مسند ابن عباس ، نبه على ذلك nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني في " الموطآت " وكذا أخرجه مسلم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " أهدى الصعب " والمحفوظ في حديث مالك الأول ، وسيأتي للمصنف في الهبة من طريق شعيب ، عن الزهري قال : " أخبرني عبيد الله أن ابن عباس أخبره أنه سمع الصعب - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - يخبر أنه أهدى " والصعب بفتح الصاد وسكون العين المهملتين بعدها موحدة ، وأبوه جثامة بفتح الجيم وتثقيل المثلثة ، وهو من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وكان ابن أخت nindex.php?page=showalam&ids=12026أبي سفيان بن حرب ، أمه زينب بنت حرب بن أمية ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بينه وبين عوف بن مالك .
قوله : ( حمارا وحشيا ) لم تختلف الرواة عن مالك في ذلك ، وتابعه عامة الرواة عن الزهري ، وخالفهم ابن عيينة ، عن الزهري فقال : " لحم حمار وحش " أخرجه مسلم ، لكن بين nindex.php?page=showalam&ids=14171الحميدي صاحب سفيان أنه كان يقول في هذا الحديث : " حمار وحش " ثم صار يقول : " لحم حمار وحش " فدل على اضطرابه فيه ، وقد توبع على قوله : " لحم حمار وحش " من أوجه فيها مقال ، منها ما أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني من طريق nindex.php?page=showalam&ids=16666عمرو بن دينار ، عن الزهري لكن إسناده ضعيف ، وقال إسحاق في مسنده : أخبرنا الفضل بن موسى ، ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، ، عن الزهري فقال : " لحم حمار " وقد خالفه خالد الواسطي ، عن محمد بن عمرو فقال : " حمار وحش " كالأكثر ، وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني من طريق ابن إسحاق ، عن الزهري فقال : " رجل حمار وحش " nindex.php?page=showalam&ids=12563وابن إسحاق حسن الحديث إلا أنه لا يحتج به إذا خولف ، ويدل على وهم من قال فيه عن الزهري ذلك nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : " قلت للزهري : الحمار عقير؟ قال : لا أدري " . أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة وابن عوانة في " صحيحيهما " .
واتفقت الروايات كلها على أنه رده عليه ، إلا ما رواه ابن وهب nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن أمية : nindex.php?page=hadith&LINKID=886702 " أن الصعب أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - عجز حمار وحش وهو بالجحفة فأكل منه وأكل القوم " قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : إن كان هذا [ ص: 40 ] محفوظا فلعله رد الحي وقبل اللحم . قلت : وفي هذا الجمع نظر لما بينته ، فإن كانت الطرق كلها محفوظة فلعله رده حيا لكونه صيد لأجله ، ورد اللحم تارة لذلك ، وقبله تارة أخرى ، حيث علم أنه لم يصد لأجله ، وقد قال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في " الأم " : إن كان الصعب أهدى له حمارا حيا ، فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حيا ، وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له .
ونقل الترمذي ، عن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه . ويحتمل أن يحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر وهو حال رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من مكة ، ويؤيده أنه جازم فيه بوقوع ذلك بالجحفة ، وفي غيرها من الروايات بالأبواء أو بودان ، وقال القرطبي : يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا ثم قطع منه عضوا بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدمه له ، فمن قال : " أهدى حمارا " ، أراد بتمامه مذبوحا حيا ، ومن قال : " لحم حمار " أراد ما قدمه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ويحتمل أن يكون من قال : " حمارا " أطلق وأراد بعضه مجازا . قال ويحتمل أنه أهداه له حيا ، فلما رده عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظانا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته ، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد حكم الكل ، قال : والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الروايات . وقال النووي : ترجم nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري بكون الحمار حيا ، وليس في سياق الحديث تصريح بذلك ، وكذا نقلوا هذا التأويل عن مالك ، وهو باطل ؛ لأن الروايات التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح . انتهى .
وإذا تأملت ما تقدم لم يحسن إطلاقه بطلان التأويل المذكور ولا سيما في رواية الزهري التي هي عمدة هذا الباب ، وقد قال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في " الأم " : حديث مالك " أن الصعب أهدى حمارا " أثبت من حديث من روى أنه أهدى لحم حمار ، وقال الترمذي : روى بعض أصحاب الزهري في حديث الصعب : " لحم حمار وحش " وهو غير محفوظ .
قوله : ( بالأبواء ) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالمد : جبل من عمل الفرع بضم الفاء والراء بعدها مهملة ، قيل : سمي الأبواء لوبائه على القلب ، وقيل : لأن السيول تتبوؤه أي : تحله .
قوله : ( أو بودان ) شك من الراوي ، وهو بفتح الواو وتشديد الدال وآخرها نون موضع بقرب الجحفة ، وقد سبق في حديث عمرو بن أمية أنه كان بالجحفة ، وودان أقرب إلى الجحفة من الأبواء فإن من الأبواء إلى الجحفة للآتي من المدينة ثلاثة وعشرين ميلا ، ومن ودان إلى الجحفة ثمانية أميال ، وبالشك جزم أكثر الرواة ، وجزم ابن إسحاق nindex.php?page=showalam&ids=16214وصالح بن كيسان ، عن الزهري بودان ، وجزم معمر وعبد الرحمن بن إسحاق ومحمد بن عمرو بالأبواء ، والذي يظهر لي أن الشك فيه من ابن عباس لأن nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني أخرج الحديث من طريق عطاء عنه على الشك أيضا .
قوله : ( فلما رأى ما في وجهه ) في رواية شعيب : " فلما عرف في وجهي رده هديتي " . وفي رواية الليث ، عن الزهري عند الترمذي : " فلما رأى ما في وجهه من الكراهية " وكذا لابن خزيمة من طريق nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج المذكورة .
قوله : ( إنا لم نرده عليك ) في رواية شعيب nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج : " ليس بنا رد عليك " وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري عند nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني : إنا لم نرده عليك كراهية له ، ولكنا حرم . قال عياض : ضبطناه في [ ص: 41 ] الروايات : " لم نرده " بفتح الدال ، وأبى ذلك المحققون من أهل العربية ، وقالوا : الصواب أنه بضم الدال ؛ لأن المضاعف من المجزوم يراعى فيه الواو التي توجبها له ضمة الهاء بعدها . قال : وليس الفتح بغلط ، بل ذكره ثعلب في الفصيح . نعم تعقبوه عليه بأنه ضعيف ، وأوهم صنيعه أنه فصيح ، وأجازوا أيضا الكسر وهو أضعف الأوجه . قلت : ووقع في رواية الكشميهني بفك الإدغام " لم نردده " بضم الأولى وسكون الثانية ولا إشكال فيه .
قلت : وقد تقدم أن عند nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي من رواية صالح بن كيسان : " إنا حرم ؛ لا نأكل الصيد " فبين العلتين جميعا ، وجاء عن مالك تفصيل آخر بين ما صيد للمحرم قبل إحرامه يجوز له الأكل منه أو بعد إحرامه فلا ، وعن عثمان التفصيل بين ما يصاد لأجله من المحرمين فيمتنع عليه ، ولا يمتنع على محرم آخر . وقال ابن المنير في " الحاشية " : حديث الصعب يشكل على مالك ؛ لأنه يقول : ما صيد من أجل المحرم يحرم على المحرم وعلى غير المحرم ، فيمكن أن يقال : قوله : " فرده عليه " لا يستلزم أنه أباح له أكله ، بل يجوز أن يكون أمره بإرساله إن كان حيا وطرحه إن كان مذبوحا ، فإن السكوت عن الحكم لا يدل على الحكم بضده ، وتعقب بأنه وقت البيان ، فلو لم يجز له الانتفاع به لم يرده عليه أصلا إذ لا اختصاص له به . وفي حديث الصعب الحكم بالعلامة لقوله : " فلما رأى ما في وجهي " . وفيه جواز رد الهدية لعلة ، وترجم له المصنف : " من رد الهدية لعلة " وفيه الاعتذار عن رد الهدية تطييبا لقلب المهدي ، وأن الهبة لا تدخل في الملك إلا بالقبول ، وأن قدرته على تملكها لا تصيره مالكا لها ، وأن على المحرم أن يرسل ما في يده من الصيد الممتنع عليه اصطياده .