قوله : ( باب لا يعضد شجر الحرم ) بضم أوله وفتح الضاد المعجمة ، أي : لا يقطع . قوله : ( وقال ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعضد شوكه ) سيأتي موصولا بعد باب ، ويأتي البحث فيه هناك .
قوله : ( عن سعيد ) في رواية عبد الله بن يوسف ، عن الليث ، حدثني سعيد كما تقدم في العلم .
قوله : ( عن أبي شريح العدوي ) كذا وقع هنا ، وفيه نظر ؛ لأنه خزاعي من بني كعب بن ربيعة بن لحي ، بطن من خزاعة ، ولهذا يقال له : الكعبي أيضا ، وليس هو من بني عدي ، لا عدي قريش ولا عدي مضر ، فلعله كان حليفا لبني عدي بن كعب من قريش ، وقيل : في خزاعة بطن يقال لهم بنو عدي ، وقد وقع في رواية ابن أبي ذئب ، عن سعيد : " سمعت أبا شريح " أخرجه أحمد . واختلف في اسمه فالمشهور أنه خويلد بن عمرو ، وقيل : ابن صخر ، وقيل : هانئ بن عمرو ، وقيل : عبد الرحمن ، وقيل : كعب ، وقيل : [ ص: 51 ] عمرو بن خويلد ، وقيل : مطر ، أسلم قبل الفتح ، وحمل بعض ألوية قومه ، وسكن المدينة ومات بها سنة ثمان وستين ، وليس له في nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري سوى هذا الحديث وحديثين آخرين .
وقد ذكر nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة في حديثه هذه القصة مختصرة ، وتقدم الكلام عليها في " باب كتابة العلم " من كتاب العلم ، وذكرنا أن عمرو بن سعيد كان أميرا على المدينة من قبل يزيد بن معاوية وأنه جهز إلى مكة جيشا لغزو عبد الله بن الزبير بمكة ، وقد ذكر الطبري القصة عن مشايخه فقالوا : كان قدوم عمرو بن سعيد واليا على المدينة من قبل يزيد بن معاوية في ذي القعدة سنة ستين ، وقيل : قدمها في رمضان منها ، وهي السنة التي ولي فيها يزيد الخلافة ، فامتنع ابن الزبير من بيعته وأقام بمكة ، فجهز إليه عمرو بن سعيد جيشا ، وأمر عليهم عمرو بن الزبير وكان معاديا لأخيه عبد الله ، وكان عمرو بن سعيد قد ولاه شرطته ثم أرسله إلى قتال أخيه ، فجاء مروان إلى عمرو بن سعيد فنهاه فامتنع ، وجاء أبو شريح فذكر القصة ، فلما نزل الجيش ذا طوى خرج إليهم جماعة من أهل مكة فهزموهم وأسر عمرو بن الزبير فسجنه أخوه بسجن عارم ، وكان عمرو بن الزبير قد ضرب جماعة من أهل المدينة ممن اتهم بالميل إلى أخيه فأقادهم عبد الله منه حتى مات عمرو من ذلك الضرب .
( تنبيه ) : وقع في السيرة nindex.php?page=showalam&ids=12563لابن إسحاق ومغازي الواقدي أن المراجعة المذكورة وقعت بين أبي شريح وبين عمرو بن الزبير ، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون أبو شريح راجع الباعث والمبعوث ، والله أعلم .
قوله : ( وهو يبعث البعوث ) هي جمع بعث بمعنى مبعوث ، وهو من تسمية المفعول بالمصدر ، والمراد به الجيش المجهز للقتال .
قوله : ( إيذن ) أصله ائذن بهمزتين فقلبت الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها .
قوله : ( أيها الأمير ) الأصل فيه " يا أيها الأمير " فحذف حرف النداء ، ويستفاد منه حسن التلطف [ ص: 52 ] في مخاطبة السلطان ليكون أدعى لقبولهم النصيحة ، وأن السلطان لا يخاطب إلا بعد استئذانه ولا سيما إذا كان في أمر يعترض به عليه ، فترك ذلك والغلظة له قد يكون سببا لإثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه ، وسيأتي في الحدود قول والد العسيف : " وائذن لي " .
قوله : ( قام به ) صفة للقول ، والمقول هو حمد الله تعالى . . . إلخ . وقوله : " الغد " بالنصب أي : ثاني يوم الفتح ، وقد تقدم بيانه .
قوله : ( سمعته أذناي . . . إلخ ) فيه إشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوجوه ، فقوله : " سمعته " أي : حملته عنه بغير واسطة ، وذكر الأذنين للتأكيد ، وقوله : " ووعاه قلبي " تحقيق لفهمه وتثبته ، وقوله : " وأبصرته عيناي " زيادة في تحقيق ذلك ، وأن سماعه منه ليس اعتمادا على الصوت فقط بل مع المشاهدة ، وقوله : " حين تكلم به " أي : بالقول المذكور ، ويؤخذ من قوله : " ووعاه قلبي " أن العقل محله القلب .
قوله : ( إنه حمد الله ) هو بيان لقوله " تكلم " ، ويؤخذ منه استحباب الثناء بين يدي تعليم العلم وتبيين الأحكام ، والخطبة في الأمور المهمة وقد تقدم من رواية ابن إسحاق أنه قال فيها : " أما بعد " .
قوله : ( إن الله حرم مكة ) أي : حكم بتحريمها وقضاه ، وظاهره أن حكم الله تعالى في مكة أن لا يقاتل أهلها ويؤمن من استجار بها ولا يتعرض له ، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى : ومن دخله كان آمنا وقوله : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ، وسيأتي بعد باب في حديث ابن عباس بلفظ : " هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض " ، ولا معارضة بين هذا وبين قوله الآتي في الجهاد وغيره من حديث أنس : nindex.php?page=hadith&LINKID=886330 " إن إبراهيم حرم مكة " ؛ لأن المعنى أن إبراهيم حرم مكة بأمر الله تعالى لا باجتهاده ، أو أن الله قضى يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة ، أو المعنى أن إبراهيم أول من أظهر تحريمها بين الناس ، وكانت قبل ذلك عند الله حراما ، أو أول من أظهره بعد الطوفان ، وقال القرطبي : معناه أن الله حرم مكة ابتداء من غير سبب ينسب لأحد ولا لأحد فيه مدخل ، قال : ولأجل هذا أكد المعنى بقوله : " ولم يحرمها الناس " والمراد بقوله : " ولم يحرمها الناس " أن تحريمها ثابت بالشرع لا مدخل للعقل فيه ، أو المراد أنها من محرمات الله فيجب امتثال ذلك ، وليس من محرمات الناس يعني : في الجاهلية كما حرموا أشياء من عند أنفسهم فلا يسوغ الاجتهاد في تركه . وقيل : معناه أن حرمتها مستمرة من أول الخلق ، وليس مما اختصت به شريعة النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : ( فلا يحل . . . إلخ ) فيه تنبيه على الامتثال ؛ لأن من آمن بالله لزمته طاعته ، ومن آمن باليوم الآخر لزمه امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه خوف الحساب عليه ، وقد تعلق به من قال : إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة ، والصحيح عند الأكثر خلافه ، وجوابهم بأن المؤمن هو الذي ينقاد للأحكام وينزجر عن المحرمات ، فجعل الكلام معه وليس فيه نفي ذلك عن غيره . وقال ابن دقيق العيد : الذي أراه أنه من خطاب التهييج ، نحو قوله تعالى : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين فالمعنى أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه ، فهذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف ، ولو قيل : لا يحل لأحد مطلقا لم يحصل منه هذا الغرض وإن أفاد التحريم .
[ ص: 53 ] قوله : ( أن يسفك بها دما ) تقدم ضبطه في العلم ، واستدل به على تحريم القتل والقتال بمكة ، وسيأتي البحث فيه بعد باب في الكلام على حديث ابن عباس .
قوله : ( ولا يعضد بها شجرة ) أي : لا يقطع . قال nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي : أصحاب الحديث يقولون : " يعضد " بضم الضاد ، وقال لنا ابن الخشاب هو بكسرها ، والمعضد بكسر أوله الآلة التي يقطع بها . قال الخليل : المعضد الممتهن من السيوف في قطع الشجر ، وقال الطبري : أصله من عضد الرجل إذا أصابه بسوء في عضده ، ووقع في رواية لعمر بن شبة بلفظ : " لا يخضد " بالخاء المعجمة بدل العين المهملة ، وهو راجع إلى معناه ؛ فإن أصل الخضد الكسر ، ويستعمل في القطع . قال القرطبي : خص الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما ينبته الله تعالى من غير صنع آدمي ، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي فاختلف فيه ، والجمهور على الجواز . وقال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : في الجميع الجزاء ، ورجحه ابن قدامة .
واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول فقال مالك : لا جزاء فيه بل يأثم . وقال عطاء : يستغفر . وقال أبو حنيفة : يؤخذ بقيمته هدي . وقال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : في العظيمة بقرة وفيما دونها شاة . واحتج الطبري بالقياس على جزاء الصيد ، وتعقبه ابن القصار بأنه كان يلزمه أن يجعل الجزاء على المحرم إذا قطع شيئا من شجر الحل ولا قائل به . وقال nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم ، إلا أن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أجاز قطع السواك من فروع الشجرة ، كذا نقله أبو ثور عنه ، وأجاز أيضا أخذ الورق والثمر إذا كان لا يضرها ولا يهلكها ، وبهذا قال عطاء ومجاهد وغيرهما ، وأجازوا قطع الشوك لكونه يؤذي بطبعه فأشبه الفواسق ، ومنعه الجمهور كما سيأتي في حديث ابن عباس بعد باب بلفظ : " ولا يعضد شوكه " وصححه المتولي من الشافعية ، وأجابوا بأن القياس المذكور في مقابلة النص . فلا يعتبر به ، حتى ولو لم يرد النص على تحريم الشوك لكان في تحريم قطع الشجر دليل على تحريم قطع الشوك ؛ لأن غالب شجر الحرم كذلك ، ولقيام الفارق أيضا فإن الفواسق المذكورة تقصد بالأذى بخلاف الشجر . قال ابن قدامة : ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقطع من الشجر بغير صنع آدمي ولا بما يسقط من الورق ، نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا .
قوله : ( وقد عادت حرمتها ) أي : الحكم الذي في مقابلة إباحة القتال المستفادة من لفظ الإذن . وقوله : ( اليوم ) المراد به الزمن الحاضر ، وقد بين غايته في رواية ابن أبي ذئب المذكورة بقوله : " ثم هي حرام إلى يوم القيامة . وكذا في حديث ابن عباس الآتي بعد باب بقوله : فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة .
قوله : ( فليبلغ الشاهد الغائب ) قال ابن جرير : فيه دليل على جواز قبول خبر الواحد ؛ لأنه معلوم أن كل من شهد الخطبة قد لزمه الإبلاغ ، وأنه لم يأمرهم بإبلاغ الغائب عنهم إلا وهو لازم له فرض العمل بما أبلغه كالذي لزم السامع سواء ، وإلا لم يكن للأمر بالتبليغ فائدة .
قوله : ( فقيل : لأبي شريح ) لم أعرف اسم القائل ، وظاهر رواية ابن إسحاق أنه بعض قومه من خزاعة .
قوله : ( لا يعيذ ) بالذال المعجمة ، أي : لا يجير ولا يعصم .
قوله : ( ولا فارا ) بالفاء وتثقيل الراء ، أي : هاربا ، والمراد من وجب عليه حد القتل فهرب إلى مكة مستجيرا بالحرم ، وهي مسألة خلاف بين العلماء ، وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الحكم مساق الدليل ، وفي تخصيصه العموم بلا مستند .
قوله : ( بخربة ) تقدم تفسيره في العلم ، وأشار nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي إلى ضبطه بكسر أوله وبالزاي بدل الراء والتحتانية بدل الموحدة جعله من الخزي ، والمعنى صحيح ، لكن لا تساعد عليه الرواية . وأغرب الكرماني لما حكى هذا الوجه ، فأبدل الخاء المعجمة جيما ، جعله من الجزية ، وذكر الجزية وكذا الذم بعد ذكر العصيان من الخاص بعد العام .
قوله : ( خربة : بلية ) هو تفسير من الراوي ، والظاهر أنه المصنف ، فقد وقع في المغازي في آخره " قال أبو عبد الله : الخربة البلية " وسبق في العلم في آخره " يعني : السرقة " وهي أحد ما قيل : في تأويلها ، وأصلها سرقة الإبل ، ثم استعملت في كل سرقة . وعن الخليل : الخربة الفساد في الإبل ، وقيل : العيب ، وقيل : بضم أوله العورة وقيل : الفساد ، وبفتحه الفعلة الواحدة من الخرابة وهي السرقة . وقد وهم من عد كلام عمرو بن سعيد هذا حديثا ، واحتج بما تضمنه كلامه .
قال nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم : لا كرامة للطيم الشيطان يكون أعلم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأغرب ابن بطال فزعم أن سكوت أبي شريح عن جواب عمرو بن سعيد دال على أنه رجع إليه في التفصيل المذكور ، ويعكر عليه ما وقع في رواية أحمد أنه قال في آخره : قال أبو شريح فقلت لعمرو قد كنت شاهدا وكنت غائبا . وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا ، وقد بلغتك . فهذا يشعر بأنه لم يوافقه ، وإنما ترك مشاققته لعجزه عنه لما كان فيه من قوة الشوكة . وقال ابن بطال أيضا : ليس قول عمرو جوابا لأبي شريح ، ؛ لأنه لم يختلف معه في أن من أصاب حدا في غير الحرم ثم لجأ إليه أنه يجوز إقامة الحد عليه في الحرم ، فإن أبا شريح أنكر بعث عمرو الجيش إلى مكة ونصب الحرب عليها فأحسن في استدلاله بالحديث ، وحاد عمرو عن جوابه ، وأجابه عن غير سؤاله . وتعقبه الطيبي [ ص: 55 ] بأنه لم يحد في جوابه ، وإنما أجاب بما يقتضي القول بالموجب ، كأنه قال له : صح سماعك وحفظك ، لكن المعنى المراد من الحديث الذي ذكرته خلاف ما فهمته منه ، فإن ذلك الترخص كان بسبب الفتح وليس بسبب قتل من استحق القتل خارج الحرم ثم استجار بالحرم ، والذي أنا فيه من القبيل الثاني .