باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا وقال عطاء إن استنثر فدخل الماء في حلقه لا بأس إن لم يملك وقال الحسن إن دخل حلقه الذباب فلا شيء عليه وقال الحسن ومجاهد إن جامع ناسيا فلا شيء عليه
[ ص: 184 ] قوله : ( باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا ) أي : هل يجب عليه القضاء أو لا؟ وهي مسألة خلاف مشهورة ، فذهب الجمهور إلى عدم الوجوب ، وعن مالك يبطل صومه ويجب عليه القضاء . قال عياض : هذا هو المشهور عنه ، وهو قول شيخه ربيع وجميع أصحاب مالك ، لكن فرقوا بين الفرض والنفل . وقال الداودي : لعل nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا لم يبلغه الحديث ، أو أوله على رفع الإثم .
قوله : ( وقال عطاء : إن استنثر فدخل الماء في حلقه لا بأس إن لم يملك ) أي : دفع الماء بأن غلبه ، فإن ملك دفع الماء فلم يدفعه حتى دخل حلقه أفطر . ووقع في رواية أبي ذر والنسفي : " لا بأس ، لم يملك " بإسقاط " إن " وهي على هذا جملة مستأنفة كالتعليل لقوله : " لا بأس " وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج " قلت لعطاء : إنسان يستنثر فدخل الماء في حلقه . قال : لا بأس بذلك " قال عبد الرزاق ، وقاله معمر عن قتادة . وقال ابن أبي شيبة : حدثنا مخلد عن ابن أبي جريج " أن إنسانا قال لعطاء : أمضمض فيدخل الماء في حلقي . قال : لا بأس ، لم يملك " وهذا يقوي رواية أبي ذر والنسفي .
قوله : ( وقال الحسن : إن دخل الذباب في حلقه فلا شيء عليه ) وصله ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي نجيح " عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يدخل في حلقه الذباب وهو صائم ، قال : لا يفطر " وعن nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع عن الربيع عن الحسن قال : " لا يفطر " ومناسبة هذين الأثرين للترجمة من جهة أن المغلوب بدخول الماء حلقه أو الذباب لا اختيار له في ذلك كالناسي ، قال ابن المنير في الحاشية : أدخل المغلوب في ترجمة الناسي لاجتماعهما في ترك العمد وسلب الاختيار . ونقل ابن المنذر الاتفاق على أن من دخل في حلقه الذباب وهو صائم أن لا شيء عليه ، لكن نقل غيره عن أشهب أنه قال : أحب إلي أن يقضي . حكاه ابن التين .
وقال الزين بن المنير : دخول الذباب أقعد بالغلبة وعدم الاختيار من دخول الماء ؛ لأن الذباب يدخل بنفسه بخلاف الاستنشاق والمضمضة فإنما تنشأ عن تسببه ، وفرق إبراهيم بين من كان ذاكرا لصومه حال المضمضة فأوجب عليه القضاء دون الناسي ، وعن الشعبي إن كان لصلاة فلا قضاء وإلا قضى .
قوله : ( وقال الحسن ومجاهد : إن جامع ناسيا فلا شيء عليه ) هذان الأثران وصلهما عبد الرزاق قال : " أخبرنا nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : لو وطئ رجل امرأته وهو صائم ناسيا في رمضان لم يكن عليه فيه شيء " ، " وعن الثوري عن رجل عن الحسن قال : هو بمنزلة من أكل أو شرب ناسيا " وظهر بأثر الحسن هذا مناسبة ذكر هذا الأثر للترجمة ، وروي أيضا " عن nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج أنه سأل عطاء عن رجل أصاب امرأته ناسيا في رمضان ، قال : لا ينسى ، هذا كله عليه القضاء " وتابع عطاء على ذلك الأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك وأحمد وهو أحد الوجهين للشافعية ، وفرق هؤلاء كلهم بين الأكل والجماع . وعن أحمد في المشهور عنه : تجب عليه الكفارة أيضا ، وحجتهم قصور حالة المجامع ناسيا عن حالة الآكل ، وألحق [ ص: 185 ] به بعض الشافعية من أكل كثيرا لندور نسيان ذلك .
قال ابن دقيق العيد : ذهب مالك إلى إيجاب القضاء على من أكل أو شرب ناسيا ، وهو القياس ، فإن الصوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات ، والقاعدة أن النسيان لا يؤثر في المأمورات . قال : وعمدة من لم يوجب القضاء حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ؛ لأنه أمر بالإتمام ، وسمى الذي يتم صوما ، وظاهره حمله على الحقيقة الشرعية فيتمسك به حتى يدل دليل على أن المراد بالصوم هنا حقيقته اللغوية . وكأنه يشير بهذا إلى قول ابن القصار : إن معنى قوله : " فليتم صومه " أي : الذي كان دخل فيه ، وليس فيه نفي القضاء . قال : وقوله : " فإنما أطعمه الله وسقاه " مما يستدل به على صحة الصوم ؛ لإشعاره بأن الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه ، فلو كان أفطر لأضيف الحكم إليه ، قال : وتعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب ؛ لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما ، وذكر الغالب لا يقتضي مفهوما ، وقد اختلف فيه القائلون بأن أكل الناسي لا يوجب قضاء ، واختلف القائلون بالإفساد هل يوجب مع القضاء الكفارة أو لا مع اتفاقهم على أن أكل الناسي لا يوجبها ، ومدار كل ذلك على قصور حالة المجامع ناسيا عن حالة الآكل ، ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه فإنما طريقه القياس والقياس مع وجود الفارق متعذر ، إلا إن بين القائس أن الوصف الفارق ملغى ا هـ .
وأجاب بعض الشافعية بأن عدم وجوب القضاء عن المجامع مأخوذ من عموم قوله في بعض طرق الحديث " من أفطر في شهر رمضان " ؛ لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع ، وإنما خص الأكل والشرب بالذكر في الطريق الأخرى لكونهما أغلب وقوعا ، ولعدم الاستغناء عنهما غالبا .
قوله : ( nindex.php?page=showalam&ids=17235هشام ) هو الدستوائي .
قوله : ( فليتم صومه ) في رواية الترمذي من طريق قتادة عن ابن سيرين : " فلا يفطر " .
قوله : ( فإنما أطعمه الله وسقاه ) في رواية الترمذي : فإنما هو رزق رزقه الله nindex.php?page=showalam&ids=14269وللدارقطني من طريق nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية عن هشام : " فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه " قال nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : تمسك جميع فقهاء الأمصار بظاهر هذا الحديث ، وتطلع مالك إلى المسألة من طريقها فأشرف عليه ؛ لأن الفطر ضد الصوم والإمساك ركن الصوم فأشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة . قال : وقد روى nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني فيه : " لا قضاء عليك " فتأوله علماؤنا على أن معناه : لا قضاء عليك الآن ، وهذا تعسف ، وإنما أقول : ليته صح فنتبعه ونقول به ، إلا على أصل مالك في أن خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لم يعمل به ، فلما جاء الحديث الأول الموافق للقاعدة في رفع الإثم عملنا به ، وأما الثاني فلا يوافقها فلم نعمل به . وقال القرطبي احتج به من أسقط القضاء ، وأجيب بأنه لم يتعرض فيه للقضاء فيحمل على سقوط المؤاخذة ؛ لأن المطلوب صيام يوم لا خرم فيه ، لكن روى nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني فيه سقوط القضاء وهو نص لا يقبل الاحتمال ، لكن الشأن في صحته ، فإن صح وجب الأخذ به وسقط القضاء ا هـ .
وأجاب بعض المالكية بحمل الحديث على صوم التطوع كما حكاه ابن التين [ ص: 186 ] عن ابن شعبان ، وكذا قال ابن القصار ، واعتل بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان فيحمل على التطوع . وقال المهلب وغيره : لم يذكر في الحديث إثباتا لقضاء فيحمل على سقوط الكفارة عنه ، وإثبات عذره ، ورفع الإثم عنه ، وبقاء نيته التي بيتها ا هـ .
والجواب عن ذلك كله بما أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم nindex.php?page=showalam&ids=14269والدارقطني من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة بلفظ : nindex.php?page=hadith&LINKID=886979من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة فعين رمضان وصرح بإسقاط القضاء . قال nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني : تفرد به محمد بن مرزوق عن الأنصاري ، وتعقب بأن nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة أخرجه أيضا عن إبراهيم بن محمد الباهلي وبأن nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم أخرجه من طريق nindex.php?page=showalam&ids=11970أبي حاتم الرازي كلاهما عن الأنصاري فهو المنفرد به كما قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي وهو ثقة ، والمراد أنه انفرد بذكر إسقاط القضاء فقط لا بتعيين رمضان ، فإن nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي أخرج الحديث من طريق علي بن بكار عن محمد بن عمرو ولفظه : nindex.php?page=hadith&LINKID=886980في الرجل يأكل في شهر رمضان ناسيا ، فقال : الله أطعمه وسقاه وقد ورد إسقاط القضاء من وجه آخر عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني من رواية nindex.php?page=showalam&ids=12799محمد بن عيسى بن الطباع عن nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية عن هشام عن ابن سيرين ولفظه : فإنما هو رزق ساقه الله إليه ، ولا قضاء عليه . وقال بعد تخريجه : هذا إسناد صحيح وكلهم ثقات .
قلت : لكن الحديث عند مسلم وغيره من طريق nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية وليس فيه هذه الزيادة . وروى nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني أيضا إسقاط القضاء من رواية أبي رافع وأبي سعيد المقبري والوليد بن عبد الرحمن nindex.php?page=showalam&ids=16572وعطاء بن يسار ، كلهم عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، وأخرج أيضا من حديث أبي سعيد رفعه : nindex.php?page=hadith&LINKID=886981من أكل في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه وإسناده وإن كان ضعيفا لكنه صالح للمتابعة ، فأقل درجات الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنا فيصلح للاحتجاج به ، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوة ، ويعتضد أيضا بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير مخالفة لهم منهم - كما قاله ابن المنذر وابن حزم وغيرهما - nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=47وزيد بن ثابت nindex.php?page=showalam&ids=3وأبو هريرة nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر ، ثم هو موافق لقوله تعالى : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم فالنسيان ليس من كسب القلب ، وموافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الأكل لا بنسيانه فكذلك الصيام ، وأما القياس الذي ذكره nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يقبل ، ورده للحديث مع صحته بكونه خبر واحد خالف القاعدة ليس بمسلم ؛ لأنه قاعدة مستقلة بالصيام فمن عارضه بالقياس على الصلاة أدخل قاعدة في قاعدة ، ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل ، وفي الحديث لطف الله بعباده والتيسير عليهم ورفع المشقة والحرج عنهما ، وقد روى أحمد لهذا الحديث سببا ، فأخرج من طريق أم حكيم بنت دينار nindex.php?page=hadith&LINKID=886982عن مولاتها أم إسحاق أنها " كانت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه ، ثم تذكرت أنها كانت صائمة ، فقال لها ذو اليدين : الآن بعدما شبعت؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتمي صومك ، فإنما هو رزق ساقه الله إليك " وفي هذا رد على من فرق بين قليل الأكل وكثيره .
ومن المستظرفات ما رواه عبد الرزاق عن nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن nindex.php?page=showalam&ids=16666عمرو بن دينار : أن إنسانا جاء إلى nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة فقال : أصبحت صائما فنسيت فطعمت ، قال : لا بأس . قال : ثم دخلت على إنسان فنسيت وطعمت وشربت ، قال : لا بأس ، الله أطعمك وسقاك . ثم قال : دخلت على آخر فنسيت فطعمت ، فقال nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : أنت إنسان لم تتعود الصيام .