[ ص: 379 ] قوله : ( باب ) بالتنوين ( من الكبائر ) أي : التي وعد من اجتنبها بالمغفرة .
قوله : ( حدثنا nindex.php?page=showalam&ids=16544عثمان ) هو ابن أبي شيبة ، nindex.php?page=showalam&ids=15628وجرير هو ابن عبد الحميد ، nindex.php?page=showalam&ids=17152ومنصور هو ابن المعتمر ، ومجاهد هو ابن جبر صاحب ابن عباس وقد سمع الكثير منه واشتهر بالأخذ عنه ، لكن روى هذا الحديث الأعمش عن مجاهد فأدخل بينه وبين ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوسا كما أخرجه المؤلف بعد قليل ، وإخراجه له على الوجهين يقتضي صحتهما عنده ، فيحمل على أن nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهدا سمعه من طاوس عن ابن عباس ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة أو العكس ، ويؤيده أن في سياقه عن طاوس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس ، وصرح nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان بصحة الطريقين معا ، وقال الترمذي رواية الأعمش أصح .
قوله : ( مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط ) أي : بستان ، وللمصنف في الأدب " خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض حيطان المدينة " فيحمل على أن الحائط الذي خرج منه غير الحائط الذي مر به ، وفي الأفراد nindex.php?page=showalam&ids=14269للدارقطني من حديث جابر أن الحائط كان لأم مبشر الأنصارية ، وهو يقوي رواية الأدب لجزمها بالمدينة من غير شك والشك في قوله " أو مكة " من جرير .
قوله : ( فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما ) قال ابن مالك : في قوله " صوت إنسانين " شاهد على جواز إفراد المضاف المثنى إذا كان جزء ما أضيف إليه نحو أكلت رأس شاتين ، وجمعه أجود نحو فقد صغت قلوبكما وقد اجتمع التثنية والجمع في قوله :
ظهراهما مثل ظهور الترسين
فإن لم يكن المضاف جزء ما أضيف إليه ، فالأكثر مجيئه بلفظ التثنية ، فإن أمن اللبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع . وقوله " يعذبان في قبورهما " شاهد لذلك .
قوله : ( يعذبان ) في رواية الأعمش " مر بقبرين " زاد ابن ماجه " جديدين فقال : إنهما ليعذبان " فيحتمل أن يقال : أعاد الضمير على غير مذكور لأن سياق الكلام يدل عليه ، وأن يقال أعاده على القبرين مجازا والمراد من فيهما .
[ ص: 380 ] قوله : ( وما يعذبان في كبير . ثم قال : بلى ) أي : إنه لكبير . وصرح بذلك في الأدب من طريق عبد بن حميد عن منصور فقال " وما يعذبان في كبير . وإنه لكبير " وهذا من زيادات رواية منصور على الأعمش ولم يخرجها مسلم ، واستدل ابن بطال برواية الأعمش على أن التعذيب لا يختص بالكبائر بل قد يقع على الصغائر ، قال لأن الاحتراز من البول لم يرد فيه وعيد ، يعني قبل هذه القصة . وتعقب بهذه الزيادة ، وقد ورد مثلها من حديث أبي بكرة عند أحمد nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني ولفظه " وما يعذبان في كبير ، بلى " وقال ابن مالك : في قوله " في كبير " شاهد على ورود " في " للتعليل ، وهو مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - nindex.php?page=hadith&LINKID=883697عذبت امرأة في هرة قال : وخفي ذلك على أكثر النحويين مع وروده في القرآن كقول الله تعالى لمسكم فيما أخذتم وفي الحديث كما تقدم ، وفي الشعر فذكر شواهد ، انتهى .
وقد اختلف في معنى قوله " وإنه لكبير " فقال أبو عبد الملك البوني : يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - ظن أن ذلك غير كبير ، فأوحي إليه في الحال بأنه كبير ، فاستدرك . وتعقب بأنه يستلزم أن يكون نسخا والنسخ لا يدخل الخبر . وأجيب بأن الحكم بالخبر >[1] يجوز نسخه فقوله " وما يعذبان في كبير " إخبار بالحكم ، فإذا أوحي إليه أنه كبير فأخبر به كان نسخا لذلك الحكم .
وقيل : يحتمل أن الضمير في قوله " وأنه " يعود على العذاب ، لما ورد في صحيح nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة nindex.php?page=hadith&LINKID=883698يعذبان عذابا شديدا في ذنب هين وقيل الضمير يعود على أحد الذنبين وهو النميمة لأنها من الكبائر بخلاف كشف العورة ، وهذا مع ضعفه غير مستقيم لأن الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة فقط كما سيأتي . وقال الداودي nindex.php?page=showalam&ids=12815وابن العربي : " كبير " المنفي بمعنى أكبر ، والمثبت واحد الكبائر ، أي : ليس ذلك بأكبر الكبائر كالقتل مثلا ، وإن كان كبيرا في الجملة . وقيل : المعنى ليس بكبير في الصورة لأن تعاطي ذلك يدل على الدناءة والحقارة ، وهو كبير الذنب . وقيل ليس بكبير في اعتقادهما أو في اعتقاد المخاطبين وهو عند الله كبير كقوله تعالى وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ، وقيل ليس بكبير في مشقة الاحتراز ، أي : كان لا يشق عليهما الاحتراز من ذلك . وهذا الأخير جزم به البغوي وغيره ورجحه ابن دقيق العيد وجماعة ، وقيل ليس بكبير بمجرده وإنما صار كبيرا بالمواظبة عليه ، ويرشد إلى ذلك السياق فإنه وصف كلا منهما بما يدل على تجدد ذلك منه واستمراره عليه للإتيان بصيغة المضارعة بعد حرف كان . والله أعلم .
قوله : ( لا يستتر ) كذا في أكثر الروايات بمثناتين من فوق الأولى مفتوحة والثانية مكسورة ، وفي رواية nindex.php?page=showalam&ids=13359ابن عساكر " يستبرئ " بموحدة ساكنة من الاستبراء . ولمسلم وأبي داود في حديث الأعمش " يستنزه " بنون ساكنة بعدها زاي ثم هاء ، فعلى رواية الأكثر معنى الاستتار أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة يعني لا يتحفظ منه ، فتوافق رواية لا يستنزه لأنها من التنزه وهو الإبعاد ، وقد وقع عند أبي نعيم في المستخرج من طريق nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع عن الأعمش " كان لا يتوقى " وهي مفسرة للمراد . وأجراه بعضهم على ظاهره فقال : معناه لا يستر عورته . وضعف بأن التعذيب لو وقع على كشف العورة لاستقل الكشف بالسببية واطرح اعتبار البول فيترتب العذاب على الكشف سواء وجد البول أم لا ، ولا يخفى ما فيه . وسيأتي كلام ابن دقيق العيد قريبا . وأما رواية الاستبراء فهي أبلغ في التوقي . وتعقب nindex.php?page=showalam&ids=13779الإسماعيلي رواية الاستتار بما يحصل جوابه مما ذكرنا قال ابن دقيق العيد : لو حمل الاستتار على حقيقته للزم أن مجرد كشف العورة كان سبب العذاب المذكور ، [ ص: 381 ] وسياق الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية ، يشير إلى ما صححه nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة مرفوعا " أكثر عذاب القبر من البول " أي : بسبب ترك التحرز منه . قال : ويؤيده أن لفظ " من " في هذا الحديث لما أضيف إلى البول اقتضى نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول ، بمعنى أن ابتداء سبب العذاب من البول ، فلو حمل على مجرد كشف العورة زال هذا المعنى ، فتعين الحمل على المجاز لتجتمع ألفاظ الحديث على معنى واحد لأن مخرجه واحد . ويؤيده أن في حديث أبي بكرة عند أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه " أما أحدهما فيعذب في البول " ومثله nindex.php?page=showalam&ids=14687للطبراني عن أنس .
قوله : ( من بوله ) يأتي الكلام عليه في الترجمة التي بعد هذه .
قوله : ( يمشي بالنميمة ) قال ابن دقيق العيد : هي نقل كلام الناس . والمراد منه هنا ما كان بقصد الإضرار ، فأما ما اقتضى فعل مصلحة أو ترك مفسدة فهو مطلوب ، انتهى . وهو تفسير للنميمة بالمعنى الأعم ، وكلام غيره يخالفه كما سنذكر ذلك مبسوطا في موضعه من كتاب الأدب .
قال النووي : وهي نقل كلام الغير بقصد الإضرار ، وهي من أقبح القبائح . وتعقبه الكرماني فقال : هذا لا يصح على قاعدة الفقهاء ، فإنهم يقولون : الكبيرة هي الموجبة للحد ولا حد على المشي بالنميمة ، إلا أن يقال : الاستمرار هو المستفاد منه جعله كبيرة ; لأن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم الكبيرة . أو أن المراد بالكبيرة معنى غير المعنى الاصطلاحي ، انتهى . وما نقله عن الفقهاء ليس هو قول جميعهم ; لكن كلام الرافعي يشعر بترجيحه حيث حكى في تعريف الكبيرة وجهين : أحدهما هذا ، والثاني ما فيه وعيد شديد . قال : وهم إلى الأول أميل . والثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر ، انتهى .
ولا بد من حمل القول الأول على أن المراد به غير ما نص عليه في الأحاديث الصحيحة ; وإلا لزم أن لا يعد عقوق الوالدين وشهادة الزور من الكبائر ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدهما من أكبر الكبائر . وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستوفى في أول كتاب الحدود إن شاء الله تعالى . وعرف بهذا الجواب عن اعتراض الكرماني بأن النميمة قد نص في الصحيح على أنها كبيرة كما تقدم .
قوله : ( فكسرها ) أي : فأتى بها فكسرها ، وفي حديث أبي بكرة عند أحمد nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني أنه الذي أتى بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما ما رواه مسلم في حديث جابر الطويل المذكور في أواخر الكتاب أنه الذي قطع الغصنين ، فهو في قصة أخرى غير هذه ، فالمغايرة بينهما من أوجه : منها أن هذه كانت في المدينة وكان معه - صلى الله عليه وسلم - جماعة ، وقصة جابر كانت في السفر وكان خرج لحاجته فتبعه جابر وحده .
ومنها أن في هذه القصة أنه - صلى الله عليه وسلم - غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين كما في الباب الذي بعد هذا من رواية الأعمش ، وفي حديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر جابرا بقطع غصنين من شجرتين كان النبي [ ص: 382 ] - صلى الله عليه وسلم - استتر بهما عند قضاء حاجته ، ثم أمر جابرا فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا ، وأن جابرا سأله عن ذلك فقال " nindex.php?page=hadith&LINKID=883700إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفع عنهما ما دام الغصنان رطبين " ولم يذكر في قصة جابر أيضا السبب الذي كانا يعذبان به ، ولا الترجي الآتي في قوله " لعله " ، فبان تغاير حديث ابن عباس وحديث جابر وأنهما كانا في قصتين مختلفتين ، ولا يبعد تعدد ذلك .
قوله ( كسرتين ) بكسر الكاف ، والكسرة القطعة من الشيء المكسور ، وقد تبين من رواية الأعمش أنها كانت نصفا . وفي رواية جرير عنه " باثنتين " قال النووي : الباء زائدة للتوكيد والنصب على الحال .
قوله : ( فوضع ) وفي رواية الأعمش الآتية " فغرز " وهي أخص من الأولى .
قوله : ( فوضع على كل قبر منهما كسرة ) وقع في مسند عبد بن حميد من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش ، ثم غرز عند رأس كل واحد منهما قطعة .
قوله : ( فقيل له ) للأعمش " قالوا " أي : الصحابة ، ولم نقف على تعيين السائل منهم .
قوله : ( لعله ) قال ابن مالك : يجوز أن تكون الهاء ضمير الشأن ، وجاز تفسيره بأن وصلتها لأنها في حكم جملة لاشتمالها على مسند ومسند إليه . قال : ويحتمل أن تكون " أن " زائدة مع كونها ناصبة كزيادة الباء مع كونها جارة ، انتهى . وقد ثبت في الرواية الآتية بحذف " أن " فقوى الاحتمال الثاني . وقال الكرماني : شبه لعل بعسى فأتى بأن في خبره .
قوله : ( يخفف ) بالضم وفتح الفاء ، أي : العذاب عن المقبورين .
قوله : ( ما لم تيبسا ) كذا في أكثر الروايات بالمثناة الفوقانية أي : الكسرتان ، nindex.php?page=showalam&ids=15086وللكشميهني " إلا أن تيبسا " بحرف الاستثناء ، وللمستملي " إلى أن ييبسا " بإلى التي للغاية والياء التحتانية أي : العودان ، قال المازري : يحتمل أن يكون أوحي إليه أن العذاب يخفف عنهما هذه المدة ، انتهى . وعلى هذا فلعل هنا للتعليل ، قال : ولا يظهر له وجه غير هذا . وتعقبه القرطبي بأنه لو حصل الوحي لما أتى بحرف الترجي ، كذا قال . ولا يرد عليه ذلك إذا حملناها على التعليل ، قال القرطبي : وقيل إنه شفع لهما هذه المدة كما صرح به في حديث جابر ; لأن الظاهر أن القصة واحدة . وكذا رجح النووي كون القصة واحدة ، وفيه نظر لما أوضحنا من المغايرة بينهما . وقال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي : هو محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة ، لا أن في الجريدة معنى يخصه ، ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس . قال : وقد قيل : إن المعنى فيه أنه يسبح ما دام رطبا فيحصل التخفيف ببركة التسبيح ، وعلى هذا فيطرد في كل ما فيه رطوبة من الأشجار وغيرها ; وكذلك فيما فيه بركة الذكر وتلاوة القرآن من باب الأولى . وقال الطيبي : الحكمة في كونهما ما دامتا رطبتين تمنعان [ ص: 383 ] العذاب يحتمل أن تكون غير معلومة لنا كعدد الزبانية . وقد استنكر nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي ومن تبعه وضع الناس الجريد ونحوه في القبر عملا بهذا الحديث . قال الطرطوشي : لأن ذلك خاص ببركة يده . وقال القاضي عياض : لأنه علل غرزهما على القبر بأمر مغيب وهو قوله " ليعذبان " . قلت : لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن لا نتسبب له في أمر يخفف عنه العذاب أن لو عذب ، كما لا يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا أن لا ندعو له بالرحمة . وليس في السياق ما يقطع على أنه باشر الوضع بيده الكريمة ، بل يحتمل أن يكون أمر به .
وقد تأسى nindex.php?page=showalam&ids=134بريدة بن الحصيب الصحابي بذلك فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان كما سيأتي في الجنائز من هذا الكتاب ، وهو أولى أن يتبع من غيره>[2] .
( تنبيه ) : لم يعرف اسم المقبورين ولا أحدهما ، والظاهر أن ذلك كان على عمد من الرواة لقصد الستر عليهما ، وهو عمل مستحسن . وينبغي أن لا يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقه ما يذم به . وما حكاه القرطبي في التذكرة وضعفه عن بعضهم أن أحدهما nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ فهو قول باطل لا ينبغي ذكره إلا مقرونا ببيانه . ومما يدل على بطلان الحكاية المذكورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضر دفن nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ كما ثبت في الحديث الصحيح ، وأما قصة المقبورين ففي حديث أبي أمامة عند أحمد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم من دفنتم اليوم هاهنا ؟ فدل على أنه لم يحضرهما ، وإنما ذكرت هذا ذبا عن هذا السيد الذي سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - " سيدا " وقال لأصحابه nindex.php?page=hadith&LINKID=883704قوموا إلى سيدكم وقال : إن حكمه قد وافق حكم الله وقال : nindex.php?page=hadith&LINKID=3502572إن عرش الرحمن اهتز لموته إلى غير ذلك من مناقبه الجليلة ، خشية أن يغتر ناقص العلم بما ذكره القرطبي فيعتقد صحة ذلك وهو باطل .
وقد اختلف في المقبورين فقيل كانا كافرين ، وبه جزم أبو موسى المديني ، واحتج بما رواه من حديث جابر بسند فيه ابن لهيعة " nindex.php?page=hadith&LINKID=883705أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية ، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة " قال أبو موسى : هذا وإن كان ليس بقوي لكن معناه صحيح ; لأنهما لو كانا مسلمين لما كان لشفاعته إلى أن تيبس الجريدتان معنى ; ولكنه لما رآهما يعذبان لم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه فشفع لهما إلى المدة المذكورة ، وجزم ابن العطار في شرح العمدة بأنهما كانا مسلمين وقال : لا يجوز أن يقال إنهما كانا كافرين لأنهما لو كانا كافرين لم يدع لهما بتخفيف العذاب ولا ترجاه لهما ، ولو كان ذلك من خصائصه لبينه ، يعني كما في قصة أبي طالب . قلت : وما قاله أخيرا هو الجواب ، وما طالب به من البيان قد حصل ، ولا يلزم التنصيص على لفظ الخصوصية ; لكن الحديث الذي احتج به أبو موسى ضعيف كما اعترف به ، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس فيه سبب التعذيب ، فهو من تخليط ابن لهيعة ، وهو مطابق لحديث جابر الطويل الذي قدمنا أن مسلما أخرجه ، واحتمال كونهما كافرين فيه ظاهر .
وأما حديث الباب فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا مسلمين ، ففي رواية ابن ماجه " مر بقبرين جديدين " فانتفى كونهما في الجاهلية ، وفي حديث أبي أمامة عند أحمد nindex.php?page=hadith&LINKID=883706 " أنه - صلى الله عليه وسلم - مر بالبقيع فقال : من دفنتم اليوم هاهنا ؟ " فهذا يدل على أنهما كانا مسلمين ; لأن [ ص: 384 ] البقيع مقبرة المسلمين ، والخطاب للمسلمين مع جريان العادة بأن كل فريق يتولاه من هو منهم ، ويقوي كونهما كانا مسلمين رواية أبي بكرة عند أحمد nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني بإسناد صحيح " يعذبان ، وما يعذبان في كبير " و " بلى وما يعذبان إلا في الغيبة والبول " فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين ; لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام الإسلام فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف .
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم إثبات عذاب القبر ، وسيأتي الكلام عليه في الجنائز إن شاء الله تعالى . وفيه التحذير من ملابسة البول ، ويلتحق به غيره من النجاسات في البدن والثوب ، ويستدل به على وجوب إزالة النجاسة ، خلافا لمن خص الوجوب بوقت إرادة الصلاة ، والله أعلم .