قوله : ( باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم ) أشار بهذه الترجمة إلى إثبات وجود الجن وإلى كونهم مكلفين ، فأما إثبات وجودهم فقد نقل إمام الحرمين في " الشامل " عن كثير من الفلاسفة والزنادقة والقدرية أنهم أنكروا وجودهم رأسا ، قال : ولا يتعجب ممن أنكر ذلك من غير المشرعين ، إنما العجب من المشرعين [ ص: 396 ] مع نصوص القرآن والأخبار المتواترة ، قال : وليس في قضية العقل ما يقدح في إثباتهم . قال وأكثر ما استروح إليه من نفاهم حضورهم عند الإنس بحيث لا يرونهم ولو شاءوا لأبدوا أنفسهم ، قال : وإنما يستبعد ذلك من لم يحط علما بعجائب المقدورات . وقال القاضي أبو بكر : وكثير من هؤلاء يثبتون وجودهم وينفونه الآن ، ومنهم من يثبتهم وينفي تسلطهم على الإنس . وقال عبد الجبار المعتزلي : الدليل على إثباتهم السمع دون العقل ، إذ لا طريق إلى إثبات أجسام غائبة لأن الشيء لا يدل على غيره من غير أن يكون بينهما تعلق ، ولو كان إثباتهم باضطرار لما وقع الاختلاف فيه ، إلا أنا قد علمنا بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتدين بإثباتهم ، وذلك أشهر من أن يتشاغل بإيراده . وإذا ثبت وجودهم فقد تقدم في أوائل صفة النار تفسير قوله تعالى : وخلق الجان من مارج من نار واختلف في صفتهم فقال nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي أبو بكر الباقلاني قال بعض المعتزلة : الجن أجساد رقيقة بسيطة ، قال : وهذا عندنا غير ممتنع إن ثبت به سمع . وقال أبو يعلى بن الفراء : الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة ، يجوز أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة خلافا للمعتزلة في دعواهم أنها رقيقة ، وأن امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها . وهو مردود ، فإن الرقة ليست بمانعة عن الرؤية . ويجوز أن يخفى عن رؤيتنا بعض الأجسام الكثيفة إذا لم يخلق الله فينا إدراكها . وروى nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في " مناقب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي " بإسناده عن الربيع سمعت nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي يقول : من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته ، إلا أن يكون نبيا . انتهى . وهذا محمول على من يدعي رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها ، وأما من ادعى أنه يرى شيئا منهم بعد أن يتطور على صور شتى من الحيوان فلا يقدح فيه ، وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور ، واختلف أهل الكلام في ذلك فقيل : هو تخييل فقط ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية ، وقيل بل ينتقلون لكن لا باقتدارهم على ذلك بل بضرب من الفعل إذا فعله انتقل كالسحر وهذا قد يرجع إلى الأول ، وفيه أثر عن عمر أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح " أن الغيلانى ذكروا عند عمر فقال : إن أحدا لا يستطيع أن يتحول عن صورته التي خلقه الله عليها ، ولكن لهم سحرة كسحرتكم ، فإذا رأيتم ذلك فأذنوا " وإذا ثبت وجودهم فقد اختلف في أصلهم فقيل : إن أصلهم من ولد إبليس ، فمن كان منهم كافرا سمي شيطانا ، وقيل : إن الشياطين خاصة أولاد إبليس ومن عداهم ليسوا من ولده ، وحديث ابن عباس الآتي في تفسير سورة الجن يقوي أنهم نوع واحد من أصل واحد ، واختلف صنفه فمن كان كافرا سمي شيطانا وإلا قيل له جني ، وأما كونهم مكلفين فقال nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : الجن عند الجماعة مكلفون ، وقال عبد الجبار : لا نعلم خلافا بين أهل النظر في ذلك ، إلا ما حكى زرقان عن بعض الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم وليسوا بمكلفين ، قال : والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين والتحرز من شرهم وما أعد لهم من العذاب ، وهذه الخصال لا تكون إلا لمن خالف الأمر وارتكب النهي مع تمكنه من أن لا يفعل ، والآيات والأخبار الدالة على ذلك كثيرة جدا ، وإذا تقرر كونهم مكلفين فقد اختلفوا هل كان فيهم نبي منهم أم لا ؟ فروى الطبري من طريق الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك ، قال : ومن قال بقول الضحاك احتج بأن الله تعالى أخبر أن من الجن والإنس رسلا أرسلوا إليهم ، فلو جاز أن المراد برسل الجن رسل الإنس لجاز عكسه وهو فاسد انتهى . وأجاب الجمهور عن ذلك بأن معنى الآية أن رسل الإنس رسل من قبل الله إليهم ، ورسل الجن [ ص: 397 ] بثهم الله في الأرض فسمعوا كلام الرسل من الإنس وبلغوا قومهم ، ولهذا قال قائلهم ( إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ) الآية ، واحتج nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم بأنه صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=888807 " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه " قال وليس الجن من قوم الإنس ، فثبت أنه كان منهم أنبياء إليهم ، قال : ولم يبعث إلى الجن من الإنس نبي إلا نبينا صلى الله عليه وسلم لعموم بعثته إلى الجن والإنس باتفاق انتهى ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : " لا يختلفون أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن " وهذا مما فضل به على الأنبياء ، ونقل عن ابن عباس في قوله تعالى في سورة غافر ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات قال : هو رسول الجن ، وهذا ذكره >[1] . وقال إمام الحرمين في " الإرشاد " في أثناء الكلام مع العيسوية : وقد علمنا ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم ادعى كونه مبعوثا إلى الثقلين ، وقال ابن تيمية : اتفق على ذلك علماء السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ، قلت وثبت التصريح بذلك في حديث nindex.php?page=hadith&LINKID=888807وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الإنس والجن فيما أخرجه البزار بلفظ . وعن ابن الكلبي كان النبي يبعث إلى الإنس فقط ، وبعث محمد إلى الإنس والجن وإذا تقرر كونهم مكلفين فهم مكلفون بالتوحيد وأركان الإسلام ، وأما ما عداه من الفروع فاختلف فيه لما ثبت من النهي عن الروث والعظم وأنهما زاد الجن ، وسيأتي في السيرة النبوية حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة وفي آخره nindex.php?page=hadith&LINKID=888808فقلت ما بال الروث والعظم قال : هما طعام الجن الحديث ، فدل على جواز تناولهم للروث وذلك حرام على الإنس ، وكذلك روى أحمد nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=888809خرج رجل من خيبر فتبعه رجلان ، وآخر يتلوهما يقول ارجعا حتى ردهما ، ثم لحقه فقال له إن هذين شيطانان فإذا أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرأ عليه السلام وأخبره أنا في جمع صدقاتنا ، ولو كانت تصلح له لبعثنا بها إليه . فلما قدم الرجل المدينة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فنهى عن الخلوة ، أي السفر منفردا واختلف أيضا هل يأكلون ويشربون ويتناكحون أم لا ؟ فقيل بالنفي وقيل بمقابله ، ثم اختلفوا فقيل أكلهم وشربهم تشمم واسترواح لا مضغ ولا بلع ، وهو مردود بما رواه أبو داود من حديث أمية بن مخشى قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=888810كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يأكل ولم يسم ثم سمى في آخره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما زال الشيطان يأكل معه فلما سمى استقاء ما في بطنه وروى مسلم من حديث ابن عمر قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=888811لا يأكلن أحدكم بشماله ويشرب بشماله ، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وروى nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر عن nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه أن الجن أصناف فخالصهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون ، وجنس منهم يقع منهم ذلك ومنهم السعالي والغول والقطرب ، وهذا إن ثبت كان جامعا للقولين الأولين ، ويؤيده ما روى nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان ، nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=1500أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=3502918الجن على ثلاثة أصناف : صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ، وصنف حيات وعقارب وصنف يحلون ويظعنون وروى ابن أبي الدنيا من حديث nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء مرفوعا نحوه لكن قال في الثالث : nindex.php?page=hadith&LINKID=844906وصنف عليهم الحساب والعقاب وسيأتي شيء من هذا في الباب الذي يليه ، وروى ابن أبي الدنيا من طريق يزيد بن يزيد بن جابر أحد ثقات الشاميين من صغار التابعين قال . ما من أهل بيت إلا وفي سقف بيتهم من الجن ، وإذا وضع [ ص: 398 ] الغداء نزلوا فتغدوا معهم والعشاء كذلك . واستدل من قال بأنهم يتناكحون بقوله تعالى : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان وبقوله تعالى : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني والدلالة من ذلك ظاهرة . واعتل من أنكر ذلك بأن الله تعالى أخبر أن الجان خلق من نار ، وفي النار من اليبوسة والخفة ما يمنع معه التوالد . والجواب أن أصلهم من النار كما أن أصل الآدمي من التراب ، وكما أن الآدمي ليس طينا حقيقة كذلك الجني ليس نارا حقيقة ، وقد وقع في الصحيح في قصة تعرض الشيطان للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=888813فأخذته فخنقته حتى وجدت برد ريقه على يدي قلت : وبهذا الجواب يندفع إيراد من استشكل قوله تعالى : إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب فقال كيف تحرق النار النار ؟ وأما قول المصنف : " وثوابهم وعقابهم " فلم يختلف من أثبت تكليفهم أنهم يعاقبون على المعاصي ، واختلف هل يثابون ؟ فروى الطبري nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم من طريق nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد موقوفا . قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=888814إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال الله لمؤمن الجن وسائر الأمم أي من غير الإنس : كونوا ترابا ، فحينئذ يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا وروى ابن أبي الدنيا عن ليث بن أبي سليم قال : ثواب الجن أن يجاروا من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا وروي عن أبي حنيفة نحو هذا القول . وذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة ، وهو قول الأئمة الثلاثة nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبي يوسف ومحمد بن الحسن ، وغيرهم ، ثم اختلفوا هل يدخلون مدخل الإنس ؟ على أربعة أقوال : أحدها : نعم ، وهو قول الأكثر ، وثانيها : يكونون في ربض الجنة وهو منقول عن مالك وطائفة ، وثالثها : أنهم أصحاب الأعراف ، ورابعها : التوقف عن الجواب في هذا .
وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي يوسف قال : قال nindex.php?page=showalam&ids=12526ابن أبي ليلى في هذا لهم ثواب ، قال : فوجدنا مصداق ذلك في كتاب الله تعالى : ولكل درجات مما عملوا قلت : وإلى هذا أشار المصنف بقوله قبلها يا معشر الجن ألم يأتكم رسل منكم فإن قوله : ولكل درجات مما عملوا يلي الآية التي بعد هذه الآية ، واستدل بهذه الآية أيضا ابن عبد الحكم . واستدل ابن وهب بمثل ذلك بقوله تعالى : أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس الآية ، فإن الآية بعدها أيضا : ولكل درجات مما عملوا وروى أبو الشيخ في تفسيره عن مغيث بن سمي أحد التابعين قال : ما من شيء إلا وهو يسمع زفير جهنم إلا الثقلين الذين عليهم الحساب والعقاب . ونقل عن مالك أنه استدل على أن عليهم العقاب ولهم الثواب بقوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان ثم قال : فبأي آلاء ربكما تكذبان والخطاب للإنس والجن ، فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين والمؤمن من شأنه أن يخاف مقام ربه ثبت المطلوب والله أعلم .
قوله : ( بخسا : نقصانا ) يريد تفسير قوله تعالى : حكاية عن الجن فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا قال يحيى الفراء : البخس النقص ، والرهق الظلم ، ومفهوم الآية أن من يكفر فإنه يخاف ، فدل ذلك على ثبوت تكليفهم
قوله : ( وقال مجاهد : وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا إلخ ) وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به وفيه : " فقال أبو بكر : فمن أمهاتهم قالوا : بنات سروات الجن إلخ " وفيه : " قال علمت الجن أنهم سيحضرون للحساب " قلت : وهذا الكلام الأخير هو المتعلق بالترجمة ، وسروات بفتح المهملة والراء جمع سرية بتحفيف الراء أي شريفة ، ووقع هنا في رواية أبي ذر " وأمهاتهن " ولغيره " وأمهاتهم " [ ص: 399 ] وهو أصوب ، ووقع أيضا لغير الكشميهني جند محضرون بالإفراد وروايته أشبه .